يثبت ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أنه صاحب رؤية سياسية بعيدة. فهو أجرى إصلاحات داخلية سعودية مكنته من إحداث تغيير جدي في التوازنات الداخلية بحيث تصدّى للإتجاهات الدينية المتزمتة ولسلطة ’’المطاوعين‘‘ في المجتمع المدني السعودي غير المحدودة كما استقطب عنصر الشباب والمرأة والطبقة المتوسطة وأعطى دورا فاعلا للأمراء الشباب على حساب مراكز القوى داخل العائلة المالكة. وهذا الأمر أتاح لمحمد بن سلمان شبكة أمان سعودية لا يمكن اختراقها من الخارج حتى من الخارج الأميركي.
أتاح الواقع السعودي الجديد لولي العهد هامشا واسعا من استقلالية الحركة اتجاه حلفائه وخصومه في الخارج. ففتح خطوطا على موسكو وبكين وباريس بمعزل عن الحسابات الأميركية كما ربط عودة العلاقات مع الحمهورية الإسلامية في ايران بتسوية في اليمن على قاعدة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وبالفعل فإن ترتيب العلاقات الايرانية – السعودية عبر الأجهزة الأمنية للبلدين وبرعاية صينية لا يمكن مقاربته إلا من زاوية المفاوضات التي رعاها العراق سابقا ومن الدور الأساس الذي لعبته سلطنة عمان بضوء أخضر أميركي.
المهم، ما يهمنا في لبنان الانعكاسات لعودة العلاقات الديبلوماسية الإيرانية – السعودية على الإنتخابات الرئاسية اللبنانية وعلى الاستقرار والحوار الداخلي. الواضح أنه بعد عودة العلاقات السعودية – الايرانية تضطر القوى الداخلية اللبنانية المرتبطة بكل من الرياض وطهران إلى تعديل في لهجتها السياسية. فالإتفاق الايراني – السعودي يدعوها إلى الحوار في ما بينها والخروج من الخطاب الجامد المتزمت.
في الشكل الاتفاق الايراني – السعودي لم يتعرض إلى التفاصيل إنما في العمق هو اتفاق حول معالجة التفاصيل وهي الأساس. في مقدمة هذه التفاصيل موضوع اليمن. وهو تفصيل تلتقي على معالجته كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين باتجاه وقف الحرب اليمنية وحفظ دور للمملكة العربية السعودية والحوثيين معا في إيجاد المخرج المناسب الذي يضمن وحدة دولة اليمن. فالإتفاق الايراني – السعودي هو المدخل الطبيعي للمبادرة باتجاه تسويات عامة في المنطقة ترعاها واشنطن من الكواليس وبالواسطة أحيانا حتى ولو كان ذلك تحت عنوان الصين. فلو كانت واشنطن وراء الإتفاق مباشرة لأثارت حساسيات إقليمية ودولية كثيرة وتحديدا حساسيات اسرائيلية وفي الداخل الأميركي. فواشنطن تبني على قاعدة أن ايران ’’دولة نووية‘‘ ولذلك لجأت إلى ’’الوكالة النووية الدولية‘‘ إلى تمهيد الطريق أمام إحياء العمل بالإتفاق النووي مع التعهد لحلفائها بعدم السماح لطهران بامتلاك قنبلة نووية. وهذا يعني أن واشنطن تغلّب في منطقة الشرق الأوسط الخيار الديبلوماسي على الخيار العسكري الذي لا تسقطه من الحسابات حفظا لمصالحها الأمنية ولمصالح حلفائها. فقبل يومين من حصول الإتفاق الايراني – السعودي أعلنت نائبة وزير الخارجية الأميركية عن تحالف استراتيجي أمني بين واشنطن والرياض. ودلالة هذا الأمر أن هذا ’’التحالف‘‘ يتيح للرياض تنويع علاقاتها بحيث لا تتعارض مع هذا الخيار.
وشئنا أم أبينا إن الفاعل الإستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط هو الولايات المتحدة الأميركية خصوصا بعد أن أضعفت ثلاثة لاعبين إقليميين كبار هم تركيا وايران واسرائيل وبعد انشغال روسيا بالحرب مع أوكرانيا وقلق الصين على مستقبل تايوان.
في كل الأحوال يقوم الفاعل الإستراتيجي الأميركي بترتيب الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط مستفيدا من كون المنطقة كلها مأزومة ومنشغلة بمشاكلها الداخلية أو مع الجوار ما يحول دون أدوار مؤثرة للاعبين الإقليميين. من هنا سيبرز دور الأمم المتحدة بتكليف أميركي في إيجاد تسوية باليمن ودور أممي وسعودي في إرساء حوار داخلي في سوريا تحت عنوان اعتراف الداخل العربي بالدولة السورية دون التدخل في الشؤون الداخلية السورية. وهذا ما عبّر عنه الرئيس التونسي قيس سعيد بأنه مع عودة العلاقات الديبلوماسية مع الدولة السورية.
لا شك أن لبنان مربوط بالتسويات العامة الأميركية في المنطقة. وأما انتخاباته الرئاسية فهي المدخل للتسوية اللبنانية – اللبنانية التي تفترض توازنا بين الدورين الايراني والسعودي في لبنان مع ما يحتم ذلك من تغليب أميركي للخيار الأمني أم للخيار المالي في اختيار شخص الرئيس القادم.
ختاما كيف ستكيّف واشنطن ’’سياساتها الإبراهيمية‘‘ مع واقع التسويات في المنطقة. هنا تحتاج إلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.