من عشرينيات القرن الماضي، قررت الدول الأوروبية، لأسباب متعددة، خلق كيان مستقل لمنطقة جبل لبنان، وبعد أخذ ورد، وتداخل عوامل داخلية و خارجية، في الثلاثة والأربعين، أخذ هذا البناء شكله النهائي، و هو عبارة عن بناية من ثلاثة طوابق و منافعها، مشاع لا يملكها أحد…
في الطابق العلوي، أسكنوا الماروني، وكان لهذا الطابق، مساحة واسعة محترمة، مع منظر جميل يطل شرقًا على رئاسة الجمهورية، وغربًا على حاكمية المصرف المركزي، و في صالونه تتربع قيادة الجيش.
في الطابق الثاني، الذي كان أصغر بقليل، أسكنوا المحمدي السني، وهو أرستقراطي البلد قبل نشأته، من بيروت وطرابلس وصيدا، تمحورت حركته في رئاسة الوزراء والسلطات التنفيذية، وكان صلة الوصل ما بين الطابق الثالث والأول.
أما في الطابق الأول، وكان الأصغر حجمًا، أسكنوا المحمدي الشيعي، طابق أمامه حديقة رئاسة مجلس النواب، بصلاحيات تشريعية، استلمها إقطاع جبل عامل وصور ووجهاء البقاع.
وما تبقى من طوائف وملل دينية، أسكنوها في الحديقة مباشرة، منهم من افترش تحت شجرة ليمون أكل من خيراتها واحتمى بظلالها، ومنهم من وجد لنفسه شجرة تفاح مثمرة، ومنهم من نام من يومها في العراء.
تقلّبت الأيام وتغيّرت، ضاقت الشقة الثانية على سكّانها، فقرروا جزئيًا نقل أولادهم الى الطابق الثالث، فتذمّر سكانه، ولكن قبلوا على مضض، ما باليد حيلة، شقّتهم كبيرة فتخلوا فيها عن غرفة النوم وجزء من المطبخ لصالح جيرانهم.
دارت الأيام مسرعة، وضاقت أيضًا الشقة الأرضية بساكنيها، فشخصت عيونهم نحو الطابق الثالث، ولمَ لا، طابقهم أرضي، وقد ملوا من الرطوبة والعناية بمدخل المبنى وتحمل ضجيج السيارات والزوار.
فقرروا الصعود بدورهم للسكن في ما قدّر الله لهم من مساحة فارغة في العلوي.
هنا انتفض صاحب الشقة العلوية، وبدأ بالصراخ و التأفّف والتذمّر، فهو اعتاد على مساحة لحريته في شقته الفارهة، وجيرانه أرادوا مزاحمته عليها.
فاتهمهم أنهم من غير مستواه وثقافته، وأنه كان دائمًا رئيسًا للجنة "البناية"، وهو من كان يرعاهم ويدير أعمالهم، وما هم إلا ضيوف عنده، فهو المالك الأكبر فيه.
وعندما أحتدم الصراع، تفتّق عقل الطابق الثالث بفكرة نيّرة، "ليسكن كل منكم في غرفة لوحده"، ولنفصل العلاقات والقرارات ولنتعايش موقتًا حتى نجد لنا الطريق لفرز العقار، وليأخذ كل منا حصته، وقرر أن يسمّي فكرته بالفيدرالية، واستشهد بأمثال عالميّة كثيرة، حيث نجحت الفكرة وتعايشت ألوان مختلفة من القوم مع بعضها.
هنا، رجل حكيم عجوز، أبيض الشعر واللحية، تقدم لهم بفكرة غريبة، طرح عليهم هدم المبنى المتداعي من ضعف بنائه من الأساس، وسوء تقسيمه، وركاكة ركائزه، وبناء منزل جديد، شَرِح واسع مع غرف عديدة، يتّسع لجميع العائلات، تكون غرفه واسعة، غرف النوم فيه تطل على الشرق ليستيقظ الساكن صباحًا على شعاع الشمس الواهبة للحياة، وصالونه غربي لاستقبال زواره الكثر…
يحيطه بستان مزروع بكل أنواع الأشجار المثمرة ليأكل أهله ولا يستجدوا يومًا فتات الخبز لأولادهم.
فكّروا بالامر، فكروا في ما قاله ذلك الحكيم، واختاروا، إما يسكن كل منا في غرفة في بناء متهالك، قابل للسقوط عند أقرب هزّة، أو زلزال سينقطع نسلنا من بعده، أو نهدمه ونذهب لبناء صلب واضح وعريض، يسكنه الجميع في فرح ومحبة وألفة، على قاعدة احترام الأخر، ونذهب يدًا بيد الى مستقبل مشرق سعيد…