لا يمكن لاي عاقل ان يستثني الشعب اللبناني اولاً من المسؤوليّة التي وصل اليها البلد، فهو المعني الاول والاخير بما حصل لانه تعاطى بشكل سيء جداً مع كل التطورات والتغييرات التي شهدتها المنطقة بشكل عام ولبنان بشكل خاص، منذ ما قبل الاستقلال الى ما بعده وحتى يومنا هذا. ومع عدم استثناء الشعب اولاً، من الطبيعي عدم استثناء المسؤولين الذين "استمات" الشعب لايصالهم الى مراكز المسؤوليّة السّياسية والاقتصاديّة والماليّة...
اما بعد، وقد وجدنا المذنب الكبير، لا بد لنا من التوقف عند المذنبين الآخرين الذين "يتبرأون" اليوم من لبنان و"ينفضون" ايديهم منه كونه بلد قائم على الهدر والفساد والفوضى و... وبالتحديد الدول الشقيقة والصديقة التي تصوّر نفسها على ان الهمّ اللبناني يرافقها ليل نهار، وتكاد تفضّل مصلحة اللبنانيين على مصالح بلادها وشعبها.
صحيح ان اللبنانيين اخطأوا في التعاطي مع الامور، ولكنهم اخطأوا بشكل اكبر وفادح حين سمحوا للخارج من دول عربيّة واجنبيّة، في التلاعب بهم وتقسيمهم وزرع الافكار الطائفيّة والمذهبيّة في حقول رؤوسهم الخصبة، والانتقام من لبنان بدفع الفلسطينيين اليه بعد ان انتصرت عليهم اسرائيل فدفع البلد وحده الثمن.
ها هو لبناننا اليوم يعاني ما لم يشهده بلد في العالم، حتى في خضمّ الحروب العالميّة والحرب الباردة والاحتلالات، ومع ذلك تراهم "يستقوون" عليه ويعيّرونه بأمور كانوا هم ابرز المساهمين في تأجيج نارها. ولكن ما يثير الاشمئزاز فعلاً، هو انّهم لا يزالون يختلفون على أطلاله للسيطرة عليها، لتكذيب كل ادعاءاتهم بأنهم لا يريدون شيئاً منه.
ولمن يشكك في كل هذه الاقوال، نتوجه اليه بسؤال بسيط وسهل: ما الذي فعلته الدول الشقيقة والصديقة (لا اعرف من هي الدول العدوّة للبنان إلاّ اسرائيل)، لمساعدة اللبنانيين؟ وسرعان ما يأتي الجواب من دون أيّ تفكير: قدّمت له الاموال والدعم. واذا سلّمنا ان هذه الاموال وهذا الدعم تم تقديمهما بصورة مجّانية وبفعل محبّة وعطاء لا غاية منه، واذا كان صحيحاً ان اللبنانيين لم يعرفوا كيفية الاستفادة من هذه "الهبات"، ما الذي فعله هؤلاء لارشادهم على الطريق القويم؟ من الذي عمل على تغذية الشوق الفلسطيني للانتقام من اسرائيل عبر تشويه لبنان، والذي كان السبب الرئيسي في اندلاع الحرب واعلان بداية الانهيار اللبناني؟ وبعدها، من الذي عمل على تغذية الطائفيّة وتربّعها على عرش المصالح؟ ومن الّذي عمل على تسليم لبنان الى سوريا ودفع الاموال للابقاء على النفوذ والسيطرة؟ ومن الذي عمل على تغذية الهدر والفساد والسرقات من خلال التعمية على هذه التصرفات والقبول بها، لا بل المشاركة الرئيسيّة فيها؟ ومن الذي استفاق اليوم على ما صنعته يداه للقول انه لم يعد "يحتمل" التصرفات اللبنانيّة بعد ان كان الاب الروحي والفعلي لها؟ ومن الذي دفع بالنازحين السوريين الى لبنان بالاعداد الضخمة التي وصلوا اليها ومنعهم (ولا يزال) من العودة الى سوريا تحت ذرائع عديدة لا يمكن لعقل بشري القبول بها (على سبيل المثال، الخوف ممّا قد يفعله النظام السوري، وهو النظام نفسه الذي بات التعامل معه عربياً ومن بعض الدول الاجنبيّة "ضرورة واساساً" والعمل جار على تسريع الخطى لعودة سوريا الى "الحضن العربي"!).
كل هذه التساؤلات تضاف الى سؤال آخر لا بد منه، وهو انّ من ابرز الاتهامات للبنان انه "يأتمر" بما يقوله "حزب الله" "التابع لايران والذي ينفّذ اجندتها"، ما يعني ان ايران هي خطر وتستعمل لبنان لغاية ايذاء دول المنطقة. اذا كان هذا الاتهام صحيحاً، فلنسأل اولاً عمّن سمح بوصول "حزب الله" الى هذه القوّة التي بات عليها اليوم، فهو لم يتمتّع حتماً عند انطلاقته بهذا النفوذ وهذه القوّة، وكان بمقدور من سلّم لبنان الى سوريا ان يفرض عليها تطويق الحزب ومنعه من النمو. واذا أشحنا بنظرنا عن هذه النقطة، ها هي السعودية قد اعادت علاقاتها مع ايران الى المستوى الدبلوماسي، فكيف تكون ايران عدوّة في لبنان وصديقة خارجه؟ وعلى الرغم من كل ذلك، فإنّ من يستقوي على لبنان حالياً، يقتنص الفرص للسيطرة على ما تبقى منه (على اطلاله)، ويختلف مع الدول الاخرى في سبيل هذه الغاية فيما يتمّ الترويج على ان احداً لا يريد شيئاً من هذا الوطن.
ذنب اللبنانيين الذي لا يغتفر، انهم سمحوا (ولم يتعلّموا بعد) للآخرين ان يسوقوهم وفقاً لمصالح كل دولة، وذنب الآخرين انهم يطمعون بلبنان وهم مستعدون للقضاء عليه كي لا يسيطر عليه غيرهم. كلّهم مذنبون، والتشديد على الدول الشقيقة والصديقة كلّها، "كلّن يعني كلّن"، وحده الله لا يزال ينظر الى هذا البلد بمحبّته اللامتناهية ويغدق عليه القديسين كبارقة امل ورجاء لا بد ان تفعل فعلها.