بعد فترة طويلة نسبياً من الهدوء في الشارع، وفي ظلّ غياب التفاهم والتنسيق بين مختلف شرائح الشعب اللبناني، احتدمت الامور بعض الشيء بالامس خلال المواجهات التي سجّلت بين الجيش اللبناني والقوى الامنية من جهة، والعسكريين المتقاعدين وبعض المتظاهرين من جهّة ثانية، وهبّ البعض الى التأكيد على ان ما حصل هو الشرارة الاولى لبدء العمل الفعلي على اشعال الشارع قبل الوصول الى تسوية مطلوبة خارجياً للبدء بتغيير الاوضاع في لبنان. انفضّ التحرك وضرب المتظاهرون موعداً جديداً يوم الاثنين المقبل (او في حال تاجيل جلسة الحكومة المستقيلة، عند تحديد موعد آخر لهذه الجلسة)، ولكن القلق لم يتأجل ولا التركيز على هذه التظاهرات ومعانيها والتهديد باقتحام السراي الكبير، ودلالاته على الصعيد السياسي.
وبعيداً عن الاتهامات التي تمّ توجيهها الى المتظاهرين (وغالبيتهم من العسكريين المتقاعدين)، اكد مصدر قريب منهم، ان المشاركين في التظاهرة يوم الاربعاء الفائت لا ينفذون اجندة احد، وبالتالي فإنّ اي اتهام لهم بتلبية اوامر او رغبات جهّة سياسية او حزبية، مردود لاصحابه ولا يمكن القبول به. ويشير المصدر نفسه الى ان المتظاهرين لا يرغبون في التصادم مع الجيش والقوى الامنية، خصوصاً وانهم كانوا اساس استمرار هذه المؤسسات العسكرية والامنية وليسوا في وارد التعرض لها، وان ابناءهم هم اليوم عماد هذه المؤسسات، والمعركة ليست معهم.
وعما يتردّد عن ان هذا التحرك قد يكون المؤشّر المنتظر لانطلاق شرارة اشعال الشارع المرتقبة، والتي ستمهد لبدء العد العكسي لحصول تسوية ما، طمأن المصدر الى انّ هذا الكلام غير صحيح، والهدف منه تحويل الانظار عن حقيقة ما يحصل من لامبالاة حيال اوضاع اللبنانيين، وبالتحديد الشريحة التي لم يعد بامكانها ان تعطي اكثر مما اعطت للبنان والمؤسسات والشعب. وقال المصدر انه بالنسبة الى المتقاعدين فإنهم لن يسمحوا بتحوير الاتجاه عن اهدافهم، وانه اذا ما قرر حزب او تيار سياسي اقحام "طابور خامس" لافتعال المشاكل، فإنّهم سيعمدون الى كشفه لانّه يشكل خطراً على تحركهم ومطالبهم المحقة.
ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في التهديد باقتحام السراي الكبير، وهي خطوة تثير مشاعر شريحة من اللبنانيين في بلد طائفي بامتياز ويُدخل الطائفيّة في كل شيء، وستأخذ الامور منحًى مختلفاً اذا ما حصل هذا الامر، تماماً كما لو ان المتظاهرين اقتحموا القصر الجمهوري او مقر مجلس النواب، فتلتهب مشاعر المسيحيين والسنّة والشيعة وعندها يمكن الحديث عن مواجهات حامية وخضّات امنيّة من النوع الذي يؤثّر على البلد بشكل عام.
لا يمكن استبعاد ايّ شيء في لبنان، ولكن من المنطقي الاخذ في الاعتبار ما يقوله المتقاعدون، فهم مجموعة تكاد تكون مغلقة لجهة انهم يعرفون بعضهم ومن السهل كشف اي "دخيل" ببنهم، كما انّه من المستبعد قبولهم بمسؤوليّة اشعال الشارع من خلال اقتحام السراي الكبير، ناهيك عن التصادم مع ابنائهم في السلك العسكري، وهم لم يقبلوا دخول النواب على الخطّ، مخافة ان يستغلّ هؤلاء الوضع لصالحهم، فعمدوا الى "التبرؤ" منهم. صحيح انه لا وجود لحركة او تحرك ما من دون غايات معينة غير معلنة ولو اختلفت النسب، ولكن اذا كانت التسوية ستأتي على ظهر خضّة امنيّة في الشارع، فسيتوجب على الجميع انتظار فرصة اخرى لان التوافق الخارجي لم يحن وقته بعد، ولا نزال في مرحلة "تصريف الاعمال" وتقطيع الوقت الى ان تدق ساعة الحلول وتبدأ مرحلة فتح الابواب المغلقة.