كنت قد اتخذت قرارا منذ أكثر من عام بوقف الكتابة الاقتصادية، خاصة أن هدف الكتابة، أي كتابة يكون عادة لإصلاح الوضع القائم، وللتأثير على جمهور القرّاء، وخاصة أصحاب القرار الذين يمكنهم الاستنارة بما يقرأون لتحقيق تغيير ما منشود. إلا أن الأمر وبعد عشرات المقالات والأوراق الأكاديمية منذ بداية الأزمة، لم يتحسّن وكأنه لا أحد يقرأ، وإن قرأ لا يريد أن يأخذ ما يقرأه على محمل الجدّ، وبالتالي الوضع الذي نعيش يتدهور بشكل مهول. إلا أنّه ما انفك يخرج عبر الشاشات أهل ساسة، وإعلام، ومصارف، من المؤثرين في الرأي العام يقولون لك صبحًا ومساءً بأنّ الوضع لا يمكن تحسينه إلا بالسياسة، وأن كل ما يجري في النقد والمال هو نتيجة للوضع السياسي المتردّي، وبالتالي يغسلون أيديهم مما آل له الوضع المالي والنقدي في البلاد، وبالتالي لا يتحمّل أصحاب القرار أيّ مسؤولية.
إلا أننا نعلم أن للسياسة تأثير أكيد على الوضع الاقتصادي، إلا أنه وفي حال كان لديك قرارات إقتصاديّة حكيمة، فيمكن لجمها، وتضييق الخناق عليها، فالقرارات الاقتصاديّة دورها أكيد في لجم ما يحاك ضدّ البلاد، ووقف مسلسل الانهيار الطويل الذي لا ينتهي. ومن هنا نطرح السؤال، كيف يمكن اصلاح الوضع اليوم، وما القرارات التي يجدر اتخاذها لوقف الانهيار الدراماتيكي لسعر صرف العملة الوطنيّة!؟ ومن هنا، ها هي خمسة قرارات ضروريّة اليوم إن كان من يقرأ، يرغب في الإصلاح، وليس الندب على ما آلت له الأوضاع.
1- التسعير بالعملة الوطنيّة: ربّما يكون قرار التسعير بالعملة الأجنبية الذي بدأ اتخاذه في المؤسسات السياحيّة، والمطاعم، ثمّ في السوبر ماركات والأسواق الاستهلاكية من أسوأ القرارات التي اتخذها وزراء هذه الحكومة على الإطلاق. فالعملة الوطنية هي سلعة، عندما ينخفض الطلب عليها، ينخفض سعرها، مثلها مثل باقي السلع والخدمات في العالم. وبالتالي قرار التسعير بعملة أجنبيّة دفع المواطن والمقيم إن لفترة موجزة أو طويلة، لعدم شراء أيّ عملة وطنية مقابل ما يحمل من عملة أجنبية، لأنه أصبح بإمكانه ومن خلال نقده الأجنبي شراء ما يرغب. على المقلب الآخر، إن الأسعار المختلفة في المؤسسات السياحية والمتاجر ومحلات التجزئة والبقالة، ينيط عن فشل السلطات الرقابية ومؤسسات حماية المستهلك في القيام بدورها، فلجأت إلى خدعة التسعير بالدولار للقول إن التسعير بالعملة الوطنية هو ما كان يقف حائلاً أمام قيامها بدورها، وتناست أن أكثريّة دول العالم لا تسعّر السلع والخدمات إلاّ بعملتها، إلا أنه لا فوضى في التسعير هناك.
2- تحديد الواردات السلعيّة: ما دام هناك انخفاض في حجم العملة الصعبة في البلاد الناتجة عن انخفاض السياحة، وعن عجز الميزان التجاري، ومع انخفاض الأجور وقيمتها، وما دام لا يوجد أي قرارات لتعظيم السياحة، ولا لزيادة الصادرات الوطنيّة، ونتيجة الظروف الصعبة التي نعيش، هناك ضرورة في تحديد الكميّات والأنواع التي يتم استيرادها موقتا إلى لبنان. مع ضرورة تحديد نسب الربح. حيث يجب أن تعطى الأولويّة في كافة المحال للسلع الوطنيّة؛ مع رقابة على أسعارها وجودتها. على المقلب الآخر، يجب إعطاء حوافز لقيام صناعات وطنيّة، لإشباع حاجات السوق المحليّة. حيث لا يوجد مدينة في العالم، يمكنك أن تجد في محلات التجزئة لديها، عشرات العلامات التجاريّة لذات الصنف.
3- إلغاء كافة أسعار الصرف مع تحديد سقوف للتذبذب: لا يمكن إعطاء عدة أسعار لسعر صرف العملة الوطنيّة، والأجدر إلغاؤها جميعاً، وإعطاء المودعين، قيمة سقوفهم بالعملة الوطنيّة على سعر صرف واحد. وهناك ضرورة في جعل سوق الصرافة حصرًا في المؤسسات الشرعيّة المرخّصة التي يجب تزويد الجمهور وعند قيامه بأيّ عمليّة مهما بلغ حجمها بوصل عن العمليّة التي قام بها؛ مع وجود شاشات تظهر للعيان أسعار الصرف وتذبذبها اليومي من خلال حجم الطلب والعرض الوطني. هذه الطريقة تلجم أيّ شاشات وتطبيقات غير شرعيّة يتم من خلالها حاليّا رفع أو خفض سعر الصرف. على أنه يجب وبعد دراسة سوق القطع وضع سعر أدنى وأعلى للعملة، يمكن أن تتدخل السلطات النقديّة للجم ارتفاعه، ولزيادة الاحتياطيات عند الانخفاض؛ فيستطيع المصرف المركزي تحقيق إيرادات من دخوله في سوق القطع تضاف إلى احتياطياته.
4- إعطاء رخص لمصارف حديثة وتطوير أسواق المال: ما دامت فشلت المصارف الحاليّة في جذب الإيداعات من الشركات والأشخاص لأكثر من ثلاثة أعوام، وما دام تحول الاقتصاد في البلاد، إلى إقتصاد نقدي، وما دام بقاء هذا الأمر ينتج عنه إنخفاض حجم الإستثمارات في المؤسسات التي تحتاج لتمويل، ما يقف عائقًا أمام تطوير الاقتصاد؛ هناك ضرورة في إعطاء السلطات النقديّة لرخص لمصارف حديثة، مع حوافز للعمل في السوق اللبناني، ما ينتج عنه خلق دينامية تحفيزيّة للمصارف القائمة على تحسين أوضاعها لتبقى في دائرة المنافسة.
5- الرقابة والعقاب: ان عمل السلطات الرقابية والتنفيذية وقيامها بدورها المنوط بها لا أكثر ولا أقل، يساعد في لجم الانهيارات ورفع منسوب الأمل في الدولة القادرة على القيام بدورها. هذا الأمل، هو الذي يقف حائلاً أمام مزيد من الانهيارات، والذي يتمثّل في: الرقابة على الواردات السلعيّة من الخارج وقيمتها، وحجمها. الرقابة على أسعار السلع والخدمات، وضرورة تحديد نسب الربح في ظل الظروف المعيشيّة الصعبة لأكثريّة المواطنين. الرقابة على مؤسسات الصرافة والتزامها بتطبيق المعايير المحددة من ناحية العلانية في الأسعار، والشفافية في البيع والشراء والآنية من خلال الشاشات والبرامج المعلوماتيّة التي تعتمد. على المقلب الآخر، لا يمكن أن يكون للرقابة دور إلا متى ما وجدت سياسة عقاب صارمة، تمثّلت بغرامات على المخالفين تكون موجعة.
نعم هذه هي القرارات الخمس التي متى ما بُدِئ اتخاذها، يتحسّن الوضع النقدي بصورة تظهر للعيان فورًا، ويلمس نتيجتها جميع المواطنين والمقيمين في البلاد. نكتب لمن اليوم؟ لا لأحد، لأنه لا قرار إلا في الغرق أكثر، إلا أنه وطننا الذي نشعر له بدفء وحبّ عظيم، وبِيُتم متى ما ابتعدنا عنه. نكتب له.
*اقتصادي