لم تكن الخلافات الإقليمية طيلة الفترة الماضية، خصوصاً بين الإيرانيين ودول الخليج العربي طبيعية، كانت حالة إستثنائية إمتدّت لسنوات طويلة، عانت على أثرها شعوب الإقليم من الأزمات السياسية، التي تُرجمت في هزّ الإستقرار عسكرياً، وأمنياً، وايضاً إقتصادياً.
إشتدّ الخطاب المذهبي بين المدراس الاسلامية وتحديداً بين مجموعات عند السنّة والشيعة، وإستُحضر خلافٌ عمره أكثر من الف سنة، كان يُفترض أن تمحو آثاره الأجيال المتعاقبة، لكن تصرفات المجموعات ذاتها مدّته بغذاء يومي. ثم زاده الغرب حدّة، ولعبت فيه اسرائيل دور المحرّض في سبيل التفرقة، نجحت، فتوسّعت مساحات التطرف، ووُلدت حركات اسلامية كان آخر تجلياتها تنظيم "داعش"، فدفعت كل المكونات الطوائفيّة اثمانه هجرة، وتغييرات ديمغرافية، كادت تجرّ الاقليم نحو التصحّر الفكري.
إستنفذت كل من السعودية وايران كل مفاعيل مشاريعهما السياسية، استناداً الى مفاهيم اسلامية محدّدة شكّلت قواعد السلوك السياسي او التوسعي لكلا الفريقين. وعندما استلم ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان زمام القيادة في المملكة، أطاح بكل اشكال الرجعية والممارسات الدينيّة المبالغ بها، ودفع بلاده بإتجاه الحداثة، لتبدأ السعودية معه في عصر الدولة الجديدة. حاكى مستجدات الحياة، وخاطب الاجيال الجديدة، واراد ان يبني اقتصاد المملكة القائم على الاستثمارات بعد ادراكه ان مستقبل النفط لن يكون في صالح بلاده، حيث سيكون مصيره بعد عشر سنوات شبيهاً بحال الفحم الحجري، نتيجة التوجه نحو الطاقة البديلة في العالم.
نجح ولي العهد السعودي في رسم خطواته الاستراتيجية، لكن حرب اليمن كانت فرضت اعباء على كاهل المملكة، إقتصادياً، وامنياً: لا يمكن تنفيذ السعودية مخطط 2030 من دون استقرار اقليمي، يبدأ في اليمن. ومن هنا جاء توجه ولي العهد لبت مسار تلك الحرب.
بالمقابل، تعاني ايران من استنزافات مقلقة، نتيجة حروب اقليميّة، وخصوصاً بعد تحرك الاحتجاجات داخل الجمهورية الاسلامية، ليتبيّن ايضاً ان ساحتها ليست محصّنة على خطين: الاجيال الجديدة، والقوميات داخل الدولة.
اذا كان بن سلمان سارع لإستيعاب الجيل الصاعد عبر سلسلة اصلاحات وتطوير في المفاهيم، فكان لا بدّ لايران ان تخطو في ذات المسار التطويري، لاسيما بعد طرح موضوع الزامية الحجاب الاسلامي، والذي اتخذ ابعاداً خطيرة كادت تنسف كل مفهوم العقيدة التي قامت على اساسها الجمهورية الايرانية بعد الثورة الاسلامية عام 1979.
لا تكفي تلك المعالجات الداخلية، في وقت بدت فيه القيادة الايرانية جادة في التجديد، وهي اساساً تستند الى الاجتهاد في عقيدتها. لذا، تمّ طرح مشروع حل الخلافات المذهبية في الاقليم، التي كانت عزّزت حركات التطرف الاسلامي. ومن هنا بدت طهران مستعجلة لدفن تلك التباينات الاسلامية التي تنطلق من قواعد المدراس المذهبيّة، وهو ما يتمّ طرحه حالياً بين طهران والرياض: لا خطاب ولا ممارسات مذهبية.
مما يعني ان المصالحة الايرانية-السعودية ذاهبة الى ابعد من حلول سياسية موضعيّة، بل رغبة في القضاء على عوامل الخلل التي اطاحت بعلاقات الدولتين.
يُسجّل هنا لوليّ العهد السعودي انه هو الذي طرح البدء بحل الابعاد الجوهرية للازمات، وتحديداً الامور المذهبيّة، لا الاقتصار على مسائل سيّاسية، فجاءت موافقة ايران الفوريّة، لتبرهن طهران انها لا تملك مشاريع توسعيّة ذات بعد مذهبي، او على الاقل لم تعد تريد تلك المشاريع بعد عقود من المحاولات.