صارت قضية "الساعة" خلف اللبنانيين، لكن تداعيات التوقيت تركت آثاراً في الجسم اللبناني. لم يكن يتوقّع رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي ولا جميع المسلمين الصائمين حجم الردود الطائفية التي اعادت مناخات الحرب اللبنانية الى البلد تحت عنوان الساعة. كان يمكن للمعترضين على التوقيت الشتوي، وهو حق طبيعي وديمقراطي لهم، أن يحوّلوا اعتراضهم الى المسار التقني، لكسب تأييد الشعب اللبناني. لكن وضع الرفض في اطار طائفي أظهر انها ليست "رمّانة بل قلوب مليانة"، خصوصاً ان مسار الاعتراض سلك طريقاً خطيراً نحو استحضار مشاريع تقسيمية.
تعود اسباب القلوب "المليانة" بشكل اساسي الى المواجهة السياسية المفتوحة بين ميقاتي وقيادة التيار "الوطني الحر" منذ فشل النائب جبران باسيل في منع تسمية ميقاتي لرئاسة الحكومة. لم يهضم باسيل مضي رئيس حكومة تصريف الاعمال بمهامه، في زمن الفراغ الرئاسي. لكن ميقاتي ليس مسؤولاً عن عدم اتفاق القوى وتحديداً المسيحية، على اسم الرئيس العتيد، ولا عن الفراغ الرئاسي. علماً ان سفراء غربيين قالوا في جلسات امس: ان التضامن بشأن رفض التوقيت الشتوي كان يُفترض ان يكون حول انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وعندما استطلع سفراء دول معنية بلبنان، عما حصل، جاءها الجواب: لا ينتخب المعترضون رئيساً للجمهورية، ولا يحضرون جلسات مجلس الوزراء لمتابعة اولويات المواطنين، ولا جلسات مجلس النواب للتشريع او انتخاب الرئيس، فما هو المطلوب؟ ومن هنا يأتي جواب العواصم المعنية بالإستقرار اللبناني: فليتابع ميقاتي مسؤولياته الوطنية، لأن البديل هو مزيد من الانهيارات التي تقود الى تفلّت الساحة اللبنانية.
لوّح ميقاتي بالاعتكاف، لكن حلفاءه ومرجعيته الطائفيّة وحاضنته السياسية من جهة، والعواصم الدوليّة من جهة ثانية، تمنّت عليه الاستمرار في مهامه لغاية انتخاب رئيس للجمهورية.
سيتعرض رئيس حكومة تصريف الاعمال لمزيد من السهام السياسية والطائفيّة، لكن مسؤوليّته الوطنية تحتّم عليه المضي من دون تراجع قد يفسّر انه هروب.
يسجّل لميقاتي حالياً، انه عندما لمس ان الخطاب الطائفي يشتدّ، ويستولد خطاباً طائفياً مضاداً رُصد في تغريدات ومواقف رجال دين مسلمين، اقدم بشكل سريع على اتخاذ خطوة التراجع التي وُضعت في خانة "الفعل الوطني" منعاً لتفلت الامور، وبالتالي أجهض مشروعاً فتنوياً خطيراً جدّاً.
لا يبدو ان ميقاتي الذي ينال تعاطفاً وتأييداً اسلامياً متزايداً في الاونة الاخيرة، يريد ان يسجّل على نفسه انه ساهم في تغذية الخطاب الطائفي. اتخذ قرار التراجع عن التوقيت الشتوي ضمن مجلس الوزراء، وهو تفسير واضح من قبله انه يريد ان يحافظ على مؤسسة مجلس الوزراء اولاً، كمؤتمن على هذا المقام في اللعبة الوطنية او الطوائفية.
لكن، ماذا بعد؟ لا يُعقل ان تعمد قوى واحزاب كانت في صلب المنظومة السياسية على مدى عقد ونصف من الزمن، على اتهام ميقاتي بكل المآسي الموروثة في ادارة ومؤسسات الدولة. لذا، فإنه الذي يحمل كرة النار، ينتقد معارضيه، لكن خطابه سيكون سياسيا وليس طائفياً، لأن البلد لا يحتمل مغامرات ولا خطابات بأبعاد طائفية تعيده الى زمن ما قبل الطائف.
وفي حال تمددت الخطابات والتصرفات الطائفيّة، فإن هناك خشية من تفلّت داخلي، بغياب الاهتمام الخارجي الذي كان موجوداً قبل مؤتمر الطائف: لا الدول العربيّة مستعدة لأن تموّل او تسلّح أيّ فريق لبناني، كما كان بعضها ايام الحرب اللبنانية، ولا الدول الغربيّة في وارد دفع اللبنانيين نحو التقاتل.
مما يعني ان الظروف تبدّلت، ولا مجال للرهانات السياسية الخاطئة في زمن التقارب الاقليمي الذي يفترض ان يلاقيه اللبنانيون بحوار يُنتج تسوية قبل ان تُفرض عليهم، كما حصل في الطائف.