لم تضغط العواصم الدولية على اللبنانيين من أجل بت انتخابات رئاسة الجمهورية. يقتصر الأمر على التمنيات، والدعوات، وحث السياسيين اللبنانيين على إنتخاب رئيسهم، لتسجّل الولايات المتحدة الأميركية أشدّ موقف دولي بحق لبنان في بيان وزارة خارجيتها، بإعتبار أنّ قادته "يفتقرون الى الإحساس بضرورة الإسراع في إخراج البلاد من ازماتها".
لا قيمة عملية لكل تلك البيانات، بغياب المبادرات الاقليمية والدولية التي كانت تتوسط سابقاً عند كل أزمة، لفرض الحل في لبنان. ما أحوج البلد الى فرض نفسه حالياً، بعدما ثبّت السياسيون اللبنانيون عجزهم عن إيجاد تسوية سياسية جزئية أو شاملة.
لا يبدو ان واشنطن مهتمة بلبنان، طالما ان الأمن مضبوط فيه داخلياً وحدودياً. وهي تكتفي بمساعدة المؤسسات العسكرية والامنية. لن تفعل واشنطن اكثر من ذلك في ظل مطالبات اميركية بوقف المساعدات التي تُقدم الى لبنان. سيرحّب الاميركيون بأي رئيس قادم وأي حكومة جديدة.
الفرنسيون ليسوا قادرين وحدهم على طرح تسوية، بعدما فشلت المشاريع التي طرحتها باريس في الفترة الأخيرة، وأبرزها فكرة المقايضة بين رئاستي الجمهورية للنائب السابق سليمان فرنجية والحكومة للسفير نوّاف سلام. لكن الفرنسيين سيكرّرون محاولات الوصول الى حل لبناني من دون يأس ولا ملل. تعرف باريس اساساً ان طريق التسوية في لبنان يمرّ في مدخل أساسي، يقوم على ثلاثي: سوريا، السعودية، وايران. لا يمكن من دون الثلاثي المذكور الولوج الدولي نحو تسوية لبنانية. ومن هنا يجري رصد مسار المصالحة السعودية-الايرانية التي تسلك سريعاً نحو مبتغاها. لم تستحضر العاصمتان الرياض وطهران العنوان اللبناني لغاية الآن. اساساً، بيروت ليست اولوية عند ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وهو بذلك يُترجم واقع جيل سعودي جديد لم يعرف لبنان. كانت الاجيال الخليجية العربية التي سبقته تعتبر لبنان مساحة حضارة، وسياحة، وثقافة، وخدمات. لكن المستجدات القائمة على عنوانين: تراجع مستوى لبنان نتيجة الحرب والازمات السياسية والاقتصادية، وريادة دول الخليج العربي بكل المجالات التي كان يتميّز بها لبنان، جعلت بيروت تغيب عن الذاكرة والتوجّهات الخليجية.
كل ذلك يعني ان الرياض لن تبحث طويلاً واقع او مستقبل لبنان على طاولة الحوار الاقليمي. هي لن تتجاهله بالطبع، لكنها لن تضعه عقبة امام الحل الاقليمي التاريخي. ما يهم المملكة السعودية هو اليمن اولاً واخيراً، خصوصاً ان خطة بن سلمان 2030، تقضي بجعل المملكة متقدمة دولياً، مما يتطلب ضمان امن واستقرار الدول المحيطة بالسعودية. وسينجح ولي العهد الذي يُعتبر مؤسس السعودية الحديثة، بفرض الآمان والاستقرار.
بالنسبة الى ايران، يُعتبر لبنان ساحة لوجستية مهمة، حيث يوجد ابرز حليف لطهران: "حزب الله". وهو ما يعزّز تمسّك حلفاء الايرانيين برؤيتهم لرئاسة الجمهوريّة او مسار الحُكم في لبنان. مما يُعطي فرنجية تقدماً عملياً. علماً ان رئيس "المردة" الذي يجري لقاءات في فرنسا، يرتبط بعلاقات قويّة مع الاميركيين والاوروبيين، ويمكن تصنيفه في خانة الصديق للسعوديين تاريخياً وحاضراً.
اما بالنسبة لرئاسة الحكومة، فلا يبدو رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي راغباً في تولي المسؤولية في اول حكومة بعد انتخاب رئيس جديد. لكن مؤشر اهتمام السعوديين بميقاتي خلال ادائه "العُمرة" في مكّة المكرّمة، كان لافتاً جداً. واذا كانت الانتقادات السياسية السابقة بحق ميقاتي قائمة على اساس انه يرتبط بعلاقات جيدة مع "الثنائي الشيعي"، فإنّ المصالحة السعودية-الايرانية الجارية تعزّز وضع ميقاتي لبنانياً، بينما تُطوى صفحات السياسيين في الساحة السنّية الذين امتهنوا الصراع والتهجّمات الحادة بحق الثنائي المذكور وايران.
لن يكون هناك ايّ دور سياسي لهؤلاء، وخصوصاً الذين حاولوا الوصول الى السراي الحكومي. صار الوزير السابق نهاد المشنوق في مساحة النسيان السياسي، ولا مستقبل له، رغم كل محاولاته التي يسعى من خلالها للعودة الى لعب دور ما. بينما سيمضي النائب اشرف ريفي وغيره من النواب السنّة المعارضين في ولايتهم النيابية بهدوء.
ستفرض المصالحة الايرانية-السعودية واقعاً سياسياً مغايراً، في ظل الرغبة بين الدولتين لسحب كل الفتائل المذهبيّة من الواجهة الاقليميّة، ومن ضمنها لبنان. ماذا سيفعل اصحاب "الرؤوس الحامية"؟ سيدفعون الثمن بتغييب ادوارهم، او تجديد سياساتهم.