وقفنا بالأمس امامَ واقعِ الانقسامِ الذي زرعَهُ الشيطانُ، وتأملنا في ما يؤولُ اليه التمشي مع روحِ الانقسام، وادركنا الهاوية التي اليها يؤدّي. امَّا اليوم، وهو الثاني من أيامِ اسبوعِ الآلام، فنقفَ متأملينَ بواقعٍ آخر، هو واقعُ المحاسبة التي لا بدَّ منها، لكلِّ عاقلٍ مدركٍ، محاسبةٌ يضع المتبصرُ نفسَهُ فيها، أمام ثلاثةٍ هُمْ في الحسابِ مُحَكَّمون، هُمُ الله والضمير والتاريخ.
وِقفة المحاسبة هذه، تضعُ المسؤولَ أمام أعمالِه التي عاشَ "راغبًا في تنفيذها، طامعًا في الوصول الى أهدافها، وقد أغمض عينيه، عن كلِّ همّ يعترضُ السبيلَ الى تحقيقها. قلت هي وِقفَةُ المسؤول، لأنَّ المسؤوليةَ وزنةٌ تُعطى، ولا بُدَّ من حِسابٍ، حتى ولو دَفنّا هذه الوزنةَ في ترابِ الأرضِ، خوفًا من سيِّدٍ ظالمٍ قاسٍ .
وقلت أمام الله، لأن اللهَ هو العاطي، فكلُّ سلطانٍ قد اُعْطِيناهُ من فوق.
وقلت أمام الضمير، لأنّه هو عينُ اللهِ فينا، هو المنبِّهُ والقائدُ الحكيمُ، إن سمحنا له وأصغينا إليه.
وقلت أمام التاريخ، لأنّهُ الحافظُ الأكبرُ، والسجلُّ الأوسعُ، هوَ ذاكِرَةُ الشعوبِ التي لا تنسى، ولا تُهمِل، قلت أمامَ التاريخ، ليس لأن التاريخَ غريبٌ عن الله، وعن الضمير، إنما لأنه، والعفوَ اطلبُ ، قد يكونُ اعدلَ من اللهِ واوعى من الضمير، فالله رحمانٌ رحيم، وهو بواسِع حلمه وغزير رحمته، يعفو عن كلّ سيئةٍ نقوم بها، أكانت تجاهَ النفسِ أم تجاهَ فردٍ من الناس أم تجاه شعبٍ من الشعوب، والضميرُ قد يسلَى وينسى، لأنه يدرك ما في النفسِ من أطماعٍ وما في القلب من رغباتٍ ، وما في العقل من مُعضلاتٍ. أمّا التاريخُ فلا يرحمُ ولا ينسى، فلنحاذرْ حُكْمَ التاريخِ إن كنا مسؤولين، وكلُّ انسانٍ مسؤولٌ على قدرِ ما أُعطيَ أن يكونَ مسؤولاً .
أمامَ محكمةِ التاريخِ، لا نَقْدِرُ أن نستُرَ شيئًا او نُخْفِيَهُ، هناكَ ، تتِمُ صراحةً كلمةُ الربِّ " لا خفيَّ الا سيُظهَرُ ، ولا مكتومَ الا سيُعْلَمُ ويُعْلَنُ"، هناكَ سوفَ يُعْلَنُ في وضحِ النهارِ ما حيكَ في الظُلُمات، وسوف يُنادى على السطوحِ، بما قيلَ في المخادِعِ وهمسًا في الآذان.
قلتُ أمامَ التاريخ، لانَّ التاريخَ تسابقٌ في المهمّاتِ وتزاحمٌ على المسؤولياتِ، وتنافسٌ في القيادات. وكلّ هذه من اللهِ تُعْطى ، وعلى آخذِها ، أن يحقِّقَ فيها ارادةَ اللهِ، فمنْ يهربُ او يتهرَّبُ، ومن يعْمَى او يتعامى عن ارادة اللهِ في مشروعِ مسؤوليتهِ، يقعُ في وكْرِ المُرائين، وإن استطاعَ أن يخدعَ الناسَ زمنًا، فلن يُفلِتَ منْ حُكْمِ التاريخِ الذي وإنْ طالَ أوانه، لا بدَّ آتٍ، ومتى اتى يكونُ صارمًا .
كلُّ مسؤولٍ لا يعمل ارادةَ اللهِ في مسؤوليته، تُصحُّ فيه كلمةُ السيّدِ المسيحِ في المرائين : " على كرسيِّ موسى، جلسَ الكتبةُ والفريسيون".
دخولُنا اسبوعَ الآلام، يدفعُنا الى النَّظَرِ المركَّزِ، على هول ِالمسؤوليَّةِ التي كانَتْ على عاتِقِ المسيح، وعلى مشقة الطريقِ التي بدأت عُرْسًا يوم الشعانينِ، وانتهتْ موتًا على الصليبِ، مُرورًا بالتجربةِ الداميةِ في بستانِ الزيتون. وفي هذا وهذه، كانت كلمةُ المسيحِ القاطعة: "لتكن مشيئتك يا اللهُ لا مشيئتي" ، فانت ما أرسَلْتَني لأهرُبَ من هذه الكأس.
آلامُ المسيح، تضعُ كلَّ مسؤولٍ أمامَ واحدٍ من اختيارين، إمّا التهرُّبُ من القَرارِ الخطيرِ، والسعي الى سلامَةِ الفردِ على حسابِ خيرِ الجماعة، وإمّا الاقدامُ في مشروعٍ خلاصيٍّ فريد، وان كان في هذ المشروعِ موتٌ للمسؤولِ، فليُدْرِكْ أنَّه لا بُدّ قائمٌ مِنْ مِحنَة الألمِ والموتِ وقد أعطى الحياةَ لشعْبِهِ وتمّ الفرحُ على يَدِه.
أمَّا المتهرّبونَ المتهوّرون، المتساهلونَ مع أنفسهم القاسون على الآخرين، فهُمْ هُم اولئك الذين جلسوا على كرسيِّ موسى، وسمعوا حُكْمَ الربِّ قاسيًا، والربُّ سيدُ التاريخِ والساهرُ عليه، هؤلاءِ المسؤولونَ الأشرارُ الذين حوَّلوا الصدقَ احتيالاً، والحقّ بطلاناً، والقداسة نجاسةً، وقلبُوا السلطانَ تسلُّطًا، والحكمَ تحكمًا والعدلَ إجراماً، هُمُ الذينَ رأوا القذى في أعين سواهم، ولم يروا الخشبةَ في أعيُنِهم، همُ، همْ سمعوا حكمَ الربِّ يقولُ لهم: "أيُّها الحياتُ اولادَ الأفاعي، مَن علّمكم أن تهرُبوا مِن الغضبِ الآتي، لا تدّعوا أنكم أنتم أهلُ البيتِ وورثةُ مجدِ آبائكم، لا تدّعوا أنكم أبناءُ ابراهيم، لأنَّ اللهَ قادرٌ على أنْ يُخرجَ من هذه ِ الحجارةِ أبناءً لابراهيم. ألم ترو، أنَّ اللهَ خلقَ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ، إنْ يشأ يُذهِبكُمُ ويأتِ بخلْقٍ جديد.
هذه كلمةُ الربِّ يحملُها التاريخُ لكلِّ مسؤولٍ يدّعي المسؤوليةَ وهو منها براء.
فالفأسُ قد وُضِعَتْ على أصولِ الشَّجرِ، وكلُّ شجرةٍ لا تُثْمِرُ ثمرًا صالحًا ستقطعُ وتلقَى في النارِ، فحذار أيُّها الانسانُ من حُكْمِ التاريخ. فاسمَعْ وانتبِهْ، وعُدْ عن ضلالِكَ ولا تتجبَّرْ، فإنَّ الزمانَ قريب، " وانى لك ان تهرُبَ من دينونة جهنم".
أجل أيّها الأحباءُ المباركون ، إنَّ اسبوعَ الآلامِ يدفعنا، وإن راودنا التهرُّبُ ، الى وقفةٍ أمامَ معنى الالتزامِ، والسيرِ به الى مُنْتَهى الطريقِ، ولو تعرَّضنا الى ألمِ المساميرِ وطعنِ الرماح. ألمْ يلتزمِ المسيحُ مشروعَ الخلاصِ الذي وضعه الربُّ الإله، ولم يسرْ بهِ الى تمامِهِ؟ أما تعرَّض لهزّاتٍ وتجاربَ قاسيةٍ وضعتْهُ إزاء التردُّدِ والتراجُع؟ الم يحاولِ الثلاَّبُ أن يغيِّرَ مجرى إرادةِ اللهِ في عملِ المسيح، فأغراه بالسلطانِ والمالِ والقدرة ؟ ألم تأتهِ قويةً تجربةُ الخوفِ من الموتِ من أجلِ الآخرين؟ أيّها الأحباءُ المباركونَ بلى، لقد وُضِعَ المسيحُ في موضعِ كلِّ مسؤولٍ ملتزمٍ مشروعَ خلاصٍ. أكانَ هذا المشروعُ خلاصَ شعبِ الارضِ كلِّها أم خلاصَ أمّةٍ من أممِ الأرضِ. أم خلاصَ بقعةٍ من بقاعِ الأرضِ، يبقى بالنتيجةِ مشروعَ خلاصٍ ، ومنِ التزمَهُ، عليه، إنْ كانَ حقًا يحمِلُ في نفسِهِ شيئًا من هباتِ اللهِ ونِعَمِ المسيح، أن يلتزِمَهُ الى المنتهى، ولو كلَّفْهُ ذاكَ الشتمَ والاهانةَ والصلبَ والموت.
لنا من عنادِ المسيحِ وإرادتِه في أسبوعِ الآلام، أمثولةٌ، على كلِّ مسؤولٍ واعٍ أن يراها، لنا من تلكَ النَّعم " التي قالها المسيحُ على الصليب ، عظةٌ ولا ابلغٌ وحكمةٌ ولا انفذْ، لنا منهُ القدوةُ في العنادِ الخيّرِ الذي من بعدِه صلاحُ الأمةِ وخيرُ الشعوبِ. أرادَ المسيحُ ، وقالَ ونفَّذَ، وعرفَ أنّ المسؤوليةَ التزامٌ للخير، وأنَّ صاحِبَ السلطانِ يجبُ أن يكونَ سببَ سعادةِ الآخرين، وإنْ أتى عليهِ سلطانُهُ بالموت. عرفَ أنّ المسؤولَ حاملُ رسالةٍ، وحاملُ الرسالةِ يؤدّي ما عليه في سبيلِ سواه، لا في سبيلِ نفسِه، ولأجلِ هذا ماتَ ولم يُمِتْ أحدًا.
عرفَ المسيحُ قبلَ التزامهِ مشروعَ الخلاصِ بالآلام، كم عسيرةٌ هي الدَّربُ وكمْ هيَ شاقةٌ، فتشبَّث بكلِّ قواهُ بإرادةِ اللهِ، وآثر موتَ الطيبِ على التراجُعِ، وكأنَّهُ لم يكنْ بحاجةٍ الى مساميرَ تشدُّهُ الى الخشبة، فلصقَ بها لصُوقَ الاتحادِ ، وما نزلَ حتى أنزلوه ميتًا وقد تمَّ كلُّ شيء.
ولأنَّهُ عرفَ أوصى كلَّ مسؤولٍ بعدَهُ، وحذَّرَهُ وصلَّى لأجله. وقد عملَ خُلفاؤه بما علَّمَهُم وأوصاهم، ولطالما علّموا هُمْ مَن أتى من بعدِهِم، فهذا بولسُ يقولُ لتلميذه " إحفظ الوديعة يا تيموتاوس ولا تتهاونْ بها ولو كلفك ذلك الموت " ، ولا يدَّعيَنَّ أحدٌ أنهُ لم يأخذْ من نِعَمِ المسيحِ شيئا، فنحن " قد نلنا من ملئِه باجمعنا نعمةً على نعمةٍ " وكلُّ من آمنَ به، " قد أولاهم أن يصيروا أبناءَ الله، " فإن كُنّا من أبناء الله، فلنعمل أعمالَ الله، وأعمالُ اللهِ لا كذبَ فيها ولا خداعَ ولا تسلُّطَ لا اقتصاص، بل حبٌّ وعطاءٌ وخدمةٌ واتضاع. وإن كُنَّا نعملُ أعمالَ ابليس، فأبناءَ الشيطانِ نحنُ، وتمامُ الشيطنَةِ أن ندَّعي أنَّنا ابناءُ الله زورًا وبهتانًا.
حذارِ أيها الأحباءُ، أن يكونَ حكمُ التاريخِ علينا قاسيًا، فنُرْمى في الظُّلمةِ البرّانيّة، وفي آذانِنا صوتُ الحَكَمِ يُدوّي ويقول:
-الويلُ لكُم ايها القادةُ العميان، لأنكم تسيؤونَ الى الشريعةِ ، ووِفْقَ اهوائِكم تُفسِّرون.
-الويلُ لكم يا مَنْ تعشرونَ النعنعَ والبقولَ، وتهملونَ العدلَ والرحمةَ والعطاءَ.
-الويلُ لكم لأنَّكم أتممتُمْ شهواتِ أبيكُم، وأبوكم هو الثَّلابُ اللعين، وأعمالَهُ تعمَلُون.
حذارِ أيّها الأحبَّاء، وأنتُمْ مَنْ أنتم، وفيكُم كلُّكُم نورٌ من أنوارِ اللهِ، حذارِ أن تُخمِدُوا عمَلَ الروحِ فيكُم، واحتفظوا بما لديكم من مَواهِبِ اللهِ، لئلا يسلُبَ احدٌ إكليلَكُم.