ها نحن، في الثالث من أيام الآلام، وقد رأينا في وَقْفتينا بالأمس ومِنْ قبلِه، كيف أنَّ الانقسامَ هو من أعمالِ الشرير، وكيف أنَّ للهِ وللضميرِ وللتاريخ الحُكْمَ، في ما صنعت أيدينا، ونظمت عقولُنا، وتاقت إليه نفوسُنا.
أمّا اليوم، فوقفتنا هي للتأمّل في أبوابِ الرحمةِ التي فتحها اللهُ، لكلِّ من أساء إلى الأمانةِ، فانتبَه إلى فِعْلتِه، واستدركَ فارعوى وعادَ، وعن غيه تاب، فوجد في ربّه طيبَ المآب. نقف اليومَ لنتأملَ في عظمةِ الله الغافر، الذي لا يرغبُ بموتِ الخاطِئ، بل برجوعِهِ واهتدائه. كما نتأمّلُ بفعلِ الرجوعِ نفسِه، وبما يُرافِقُهُ من تردُّدٍ، لِمَا في الشرِّ من مُغرياتٍ، ولِمَا في التوبةِ من انقِطاعٍ وتركٍ وتخلّ.
فعلُ الرجوعِ هذا هو ردَّةٌ حقَّة، ردَّةٌ، لا عن الله والايمانِ المستقيمِ، بل رِدَّة عن الضلال إلى الهدى، والطوبى لِمَنْ أفاقَ إلى نَفْسِهِ فاهْتَدَى.
فعلُ الرجوعِ هذا، يقترنُ بأمرينِ او نُدْفَعُ إليه بدافعينِ، هما نعمةٌ منَ اللهِ نُعطَاها وارادةٌ صَلْبَةٌ بها نتحلى. أمَّا النعمةُ، فهي للجميع تُعْطَى، ولا يُحرمُ منها أحدٌ من بني البشر، مهما بلغَ به الشرُّ ودَفَعَهُ إلى الابتعاد عن نبعِ النِّعَمِ وعاطي المراحم. أمَّا الارادةُ فقد أُعْطِيَتْ لكلِّ انسانٍ، وبقَدرِ ما تكونُ مريدةً للخيرِ. بقَدْرِ ما تفعلُ النعمةُ فينا، فنهتدي.
فعلُ التوبَةِ هذا، انَّما هو فِعْلُ خلقٍ جديدٍ، به يكتَسِبُ العائدُ قلبًا جديدًا، وروحًا جديدةً، وبهذا التجدُّدِ يكونُ فرحُ السماءِ، ومرضَاهُ اللهِ. وهَذا التجدُّد، إنَّما هو ولادةٌ جديدةٌ، بعد فعل موتٍ مُؤكَّدٍ، فمَنْ كانَ بالأمسِ ابنَ الظلامِ، يَغْدُو إبنًا للنورِ ويعملُ اعمالَ أبناءِ النور، ويدخلُ ملكوتَ اللهِ، لأنَّه ما مِنْ أحدٍ يمكنُهُ أن يَرى ملكوتَ اللهِ، إلَّا إذا وُلِدَ من علو، على حدِّ قولِ يوحنا الرسول. لفعلِ الرجوع هذا علاماتٌ وطرقٌ ودلائلُ ومعانٍ .
1-هو الخروجُ من الرتَابَةِ، والرفضُ لما أَلِفْنَاهُ من حياةِ السوءِ، خروجٌ عن كلِّ ما "يُمَشّي الحال" وانطلاقٌ إلى الوعي المسؤولِ، لما نفعَلُه ونقرِّره، "وعيٌ لحقيقةِ حضورِنا في التاريخِ، ولأهميَّة دورِنَا فيه. فمَنِ استطاعَ أن يقولَ " لم يَكُنِ التاريخُ أحلى ممَّا هو عليه، لو لم أكن أنا فيه، يكونُ قد ادركَ خطورةَ دورِه مهما كانَ صغيرًا، وسعى الى تجميلِ تاريخه، وهذه نعمةٌ يُعْطَاها الانسانُ للمشاركةِ في بناءِ ملكوتِ اللهِ، والتشبُّهِ بالمسيحِ الذي مرَّ على الأرضِ وهو يُحْسِنُ الى الجميعِ وقد أحسَنَ في كلِّ ما صنَع.
2-فعل الرجوع هو موتُ شعورِ التغرُّبِ فينا، ذاكَ الشعورُ الذي يعيشُهُ الانسانُ في دنياهُ، ونفسُه مليئة بما يشبهُ الفراغَ الرهيبَ، والخوفَ المذيبَ، والتلذُّذَ الكئيبَ. هذا التغرُّبُ في العالمِ يجعلُ الانسانَ بعيدًا عمَّا حولَهُ وعمَّا في كيانِه، فهو لا يرى بوضوحٍ، ما يعتَلِجُ في قلبِهِ، وما يدورُ حولَهُ، وكأنَّهُ ينظرُ إلى الوجودِ، من خلفِ الحُجُبِ الكثيفةِ، أو مِن وراءِ البراقِعِ القاتِمَةُ.هو غريبٌ عن الطبيعَةِ وأسرارِها ، عن النفسِ وانفعالاتِها، عن اللهِ وتدبيرهِ. وهذا التغرُّبُ يبقى، طالما هناك شيءٌ واحدٌ في الوجودِ، مُقْفَلٌ أمامي، مبهمٌ لعقلِي، تَغْفَلُ عنه مقاصِدي. وقد يكونُ التغرُّبُ الصفةَ الملازمةَ لكلّ واحدٍ، كان في الأرضِ أو سيكون، خلا يسوعَ المسيح، الذي انكشفت له اسرارُ الوجودِ، وانكشفت فيه، هو وحدَهُ الانسانُ الانسان، الذي حمل الكثافةَ الترابية وتخطَّاها، هو وحدَهُ الاله الاله الذي لا خفي لديه ولا مستورَ.
فعلُ الرجوع الذي تقتضيه التوبةُ، هو شيءٌ من انكشافِ المجهولِ، وتجلّي المستور، واتضاح المُبهم. فيه، يعرفُ الراجعُ شيئًا من الذاتِ وشيئًا من الطبيعةِ وشيئًا من الله. هو الشفاءُ من جرحِ الانقسامِ الذي أصابني حين خرَجْتُ من الفِرْدَوسِ والذي لا شفاءَ منهُ الاّ برجوعي إلى ذاك الفردوس.
3-فعلُ الرجوعِ، هو ذاكَ الدليلُ على طيبةِ الانسانِ وقداسَةِ مَنْبِتِهِ. دليلٌ يقْوَى ، في كلِّ مرّةٍ، يرجعُ الانسانُ عن ضلالٍ، ليدخُلَ عالَمَ الحقِّ، والحقُّ هوَ الله.
لذلكَ يقترنُ هذا الفعلُ بالحنينِ المُلْتَهِبِ الى ما كانَ عليهِ الانسانُ قبلَ الخطأِ المقسَّمِ المُعْمِي. حنينٌ إلى فِرْدوسٍ كان فيه، أو الى فردوسٍ تحنُّ اليه قواهُ فتجذبُهُ، وترسُمُ لهُ السبلَ والدروبَ. أوليسَ أحدُ معاني الصومِ، هُوَ هذا الشعورُ اللاواعي بالانجذابِ الى واقعٍ فردوسيٍ، جميلٍ، أخَّاذٍ، واقعِ الأخاءِ بينَ الانسانِ والانسانِ، والانسانِ والطبيعةِ والانسانِ واللهِ. وما الانقطاعُ في الصيامِ، عن مأكلِ اللحومِ ومشتقاتِها، أو مأكلِ ما يأتي من الحيوانِ ومشتقاتِه، إلاّ دليلٌ على شوقٍ يتَّقِدُ فينا إلى الرجوعِ، نحو ذاك الفردوسِ الذي صوَّرهُ الكتابُ حيث كان آدمُ يعيشُ مقتاتاً من نباتِ الأرضِ وثمرِ الشجر، ذاك العالَمُ الذي لم يكُنْ فيه الانسانُ، بحاجةٍ، لأن يقتُلَ كي يعيشَ، او يُزيلَ كي يبقَى او يُبيدَ كي يستَمِرَّ، او يستعبِدَ كي يتحرَّر، او يُذِلَّ كي يرتَفِعَ. ذاكَ الفردوسُ صوّرتَهُ كتبُ السماءِ كلُّها عالمًا، إمَّا كان، كما في سِفْرِ التكوينِ، وامَّا سيكونُ كما عند الانبياءِ، حيثُ يتآخى الانسانُ والنَّمِرُ ويلعَبُ الطفلُ امامَ جُحْرِ الأفعى. ناهيكَ عن علاقةِ الانسانِ بالانسانِ. بالرجوعِ اشعرُ أنَّ فردوسَ الأرضِ في تركيبتي. واحنُّ اليه أبأوائلي كان، أم في أواخري، كما أشعرُ أنني مخلوقٌ من كمالٍ وجمالٍ وصائرٌ الى كمالٍ وجمال، أنَّني أتيتُ من فردوسٍ وذاهبٌ الى فردوس، وبين الاثنينِ، انا ذاك القلقُ والغُربة.
4-فعلُ الرجوعِ يرافقه تبدلٌّ جذريٌّ في السلوكِ، وتحوُّلٌ في المواقفِ، أأصابَ هذا السلوكُ النفسَ أمِ الناسَ امِ الله.
امّا التبدُّلُ في السلوكِ تجاهَ النفسِ، فيجعَلُ الواحدَ يعرفُ نفسَهُ، وهذا مطلبُ البشريَّةِ بعِقْلِهَا وإرادةُ الله بحكمتِه ووحيه، فإن عرَفَها، عرفَ أصلها السماويّ وكفّ عن إذلالها بالمشيناتِ، ورفعها عن الحيوانِ بالرغباتِ وأدركَ غايتها السميا، أعني الاتحادَ بابديَّةِ اللهِ، فأبعدها عن كلِّ متعةٍ آنية وسعى بتقديسِها الى الصلاحِ، ومتى أدركَ الانسانُ نفسَهُ ومآلها، عرفَ أنَّ سواهُ مثله، فيه من اللهِ صورةٌ، ومِنْ قُدْسِهِ شعلةٌ، فكفَّ عن إذلالِه واحتقارِه، وابتعدَ عن كلِّ ما يُسْقِطُ سواه من الانسانيةِ إلى الشيآنية او الحيوانية، فما صادَرَ قرارهُ، ولا خنقَ حريَّتَهُ، ولا ألغى دورَهُ، ولا تجاهَلَ كلامه، ولا زوّر موقِفَهُ ولا أماتَ رأيَهُ. متَى أدركَ الانسانُ الاخوَّةَ بالانسان، في البنَّوةِ لله، عرفَ أنَّ لكلٍ مكانَه ومكانتَه، فلا يُسْقِطُهُ الى دركاتٍ اللا وجود، ولا يَرْفَعُه الى درجاتِ الألوهة، فيعبدُه من دون الله غافلاً عن الآية التي تقول "وجعلوا لله اندادًا ليُضِلّوا عن سبيلِه، قُلْ تَمَتَّعوا فإنَّ مصيرَكُم إلى النارِ" ويا بئسَ القرار .
اما السلوك تجاه الله فيكون، بفعل الرجوع، معرفةَ اللهِ وطلبَ مجدِهِ أولاً، يكونُ بالسيرِ في مشروعِهِ دونَ التلهِي بكلِّ ما يُبْعِدُ الانسانَ عنْهُ من أجلِ مشاريعَ أخرى، تموتُ بالموتِ وتنتهي خرابًا مهما طال الزمان. ومتى عرف الانسانُ، انَّ مشروعَ اللهِ الأوَّلَ والأخيرَ هو خيرُ الانسانِ وخلاصِه، أفلا يتركُ كلَّ شيء، ويَدْخُلُ شريكًا في هذا المشروعِ؟ وحينها ألا يترك كلَّ آلهةٍ أخرى، عبَدها وكبّرها، وسجَدَ لها، وما نفعته إلا آنًا، افلا يهتِفُ "ربِّ هَبْ لي حُكْمًا وألحِقْنِي بالصالحين، إجعل لي لسانَ صدقٍ في الآخرين، واجعلني من ورَثةِ جنَّةِ النعيمِ ولا تُحزِنِّي يومَ يُبْعثُون، يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بَنُون"؟.
5-فعل الرجوع فيه إصغاءٌ، الى الربِّ في أنبيائِهِ، عِلْمًا أنَّ الله لم يتركْ شعبَه يومًا من دون صوتٍ يصرخُ هاديًا مُنبِّهًا، موقِظًا محذِّرًا مرشِدًا هاديًا.
فمن أصغى الى صوتِ الرب، نجا من الحُكْمِ ، ورفع برجوعه الغضبَ، ومن ثَقُلَتْ آذانهُ فلا يستطيعُ الاصغاءَ، وإن أصغى، فلا يُسرُّ بكلمةِ الرب، فتصلّب وتجبَّرْ، واستقوى بمالِه وتكبَّر، نزلت عليه النار مُصلاها وباتَ من قومٍ لا يرعوون. فخنقَ صوتَ النبوءة وعجَّل بارادتهِ العنيدةِ حكمَ الربِّ القائِل لنبيِّه " اما انتَ فلا تُصلّي عنْ هذا الشعبِ ولا ترفَع صراخًا، ولا صلاةً لأجلِهم، ولا تشفَعْ إليَّ فانِي لا اسمعُ لَك " لأنَّ الذينَ كسروا النيرَ وقطعوا الرُبطَ كثيرون، فلم يسمعوا ولم يميلوا آذانَهم، بل سلَكُوا في مشوراتِهم في إصرارِ قلوبِهم الشريرةِ، ورجعُوا الى الوراءِ ولم يُقْبِلوا". اصغاءُ التائبِ الى كلام الربِّ في انبيائه، يجعَلهُ يُدرِكُ واعيًا لا مقهورًا، أنَّ اللهَ يسْهَرُ على شَعبهِ ويعرفُ نقائصَهُ ولا يتركُه يتيهُ الى غيرِ رجعةٍ، انّما يؤدّبهُ ويهديه، ويُمسِكُ بيدِه ويعطيه، غيرَ انَّ الفاسِدَ من الناسِ ومَنْ يُصِمّ اذُنَيه، يَطْمعُ برحمةِ الله، وعظيمِ صفْحِهِ، فيتنَاسى او ينسى كلمةَ الربِّ لإرميا النبيّ "كيف اصفحُ... وقد تركني الشعبُ وحلفَ بما ليس إلهًا، وحينَ اشبعتُهم فَسقوا إلى بيت الزانيةِ تبادروا".
حَذارِ أيّها الاخوةُ المباركون، ان نخنقَ صوتَ الربِ ونُهْمِلَ نداءه، لئلا تُفَارِقَنا نفسُ الربِّ وتجعلَ ارضَنا بلْقَعًا لا تُسكَن. فإنْ نحنُ رجِعْنا ونزْعَنا أرجاسَنا من أمامِ وجهِ اللهِ، فلنْ نتزعزع، وإن أصلَحنا طُرُقَنا وأعمالَنا، وأجْرينا الحُكمَ بينَ الرّجلُ وقريبِهِ، ولم نَجُرْ على اليتيم والأرملة، ولم نسفُك دماءَ الأبرياءِ، ولم نتّبِع آلهة أُخَر، سكنَّا الارضَ التي أعطاها الربُّ لأجدادِنا وساكنّاهُ الخُلدَ يومَ الحَشْرِ.