يُعاند الكونسرفاتوار اللبناني الوطني العالي للموسيقى، بقيادة رئيسته هبة القواس، الصعاب والمعوقات، محافظاً قدر ما تسمح الامكانات على موقعه ودوره، قلعة من قلاع الثقافة في لبنان التي ما زالت ثابتة العمد على الرغم من التصدعات التي أصابتها.
في اثنين الفصح بحسب التقويم الغربي، قدمت الاوركسترا «الفيلهارمونية اللبنانية» التابعة لـ«الكونسرفاتوار» أمسية موسيقية في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي برعاية البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي وحضوره، إلى جانب وزيري الثقافة والاتصالات محمد وسام المرتضى وجوني القرم، وجمهور كبير من عشاق الموسيقى الكلاسيكية غصّت به باحة «الكوبول» البطريركي.
تخلل الأمسية عرض ضوئي لجدارية ميكيلانجلو في «شابيل سيكستين» بالفاتيكان حول «الدينونة» او ما يسمّى «the last judgment».
قاد الاوركسترا غارو آفسيان، أدّى المقطوعات المغنّاة الـ BARITONE فادي جنبرت. وكان ضيفا الأمسية جوليا قصار ورفعت طربيه اللذين قرأا من رسائل القديس بولس، والكتاب المقدس - العهد القديم، ومقاطع وصفت يوم الدينونة، اي الحكم الاخير عندما يمثل الانسان في حضرة الله.
أدّت الاوركسترا مقطوعات لـ البينوني، هايدن، فرانك، شوبرت، ماسكانيي، فور، كنعان، القواس، هاندل. واختطفت مقطوعتا AVE MARIA (عزفاً وغناء)، و HALLELUJAH (عزفاً) إلى جانب العزف المنفرد على الكمان لماريو الراعي لمقطوعة هبة القواس ASPIRATION N1، إعجاب الجمهور الذي صفق طويلاً.
إنّ هذا الحدث الفني الذي نهض به «الكونسرفاتوار» وهو يعاني - كما سائر المؤسسات في لبنان - لهو دلالة على انّ وطن الارز لن يبدّل هويته الثقافية، ولن يترجّل عن دوره الإبداعي، رغم هجرة العديد من فنّانيه وموسيقييه وعازفيه. وعلمت أنّ هبة القواس تدافع عن وجود «الاوركسترا الفيلهارمونية» دفاع اللبؤة الشرسة عن أشبالها، ولا تبخل بتضحية مهما غَلت، للحؤول دون انفراط عقدها، وذلك بتوفير مقومات العيش الكريم لمن تبقّى من أعضائها.
كانت رائعة أمسية اثنين الفصح، وراقية، وأعادتنا إلى الزمن الاجمل في لبنان الحق والخير والجمال الذي كان درة متوهّجة في تاج هذا الشرق. حملتنا الموسيقى إلى عالم آخر عبّدت دروبه أنامل العازفين المحترفين، وإذا كانت الصلاة هي أقرب السبل للوصول إلى الله، فإنّ الألحان التي خرقت سكون بكركي، برفق وانسياب حميم، سابَقت الصلاة إلى ملكوت السماء، فتكاملا باتحاد ثنائية الكلمة والنغم، في أقنوم الإبداع.
إنّ الاوركسترا «الفيلهارمونية» تُماثل التنوّع اللبناني في تعدد آلاتها، وتوزّع العازفين عليها، لكنها تتفوق في قدرتها على اداء منسجم، متناغم، لا نشاز فيه، يأخذ بمجامع القلوب ويرتفع بها إلى ذرى الروح بعيداً من ضوضاء الحياة اليومية وأضوائها. وقد أحسن البطريرك الماروني عندما عَزا نجاح الاوركسترا الفلهارمونية إلى وجود قائد لها، متسائلاً كيف لأوركسترا لبنان - الدولة أن تنهض من دون رئيس؟.
هبة القواس شكراً لهذه الأمسية الرائعة. إنها أعادت لنا الامل، أنّ بإمكان وطن الارز أن يشق الطريق نحو قيامته، بعقول ومواهب وسواعد وأنامل أبنائه المبدعين.