يُعاند أساتذة الصحافة والإعلام وأصحاب الصحف والمجلاّت الورقية العصر منخرطين في النقاشات والمواقف المتناقضة الصعبة والمعقّدة حول مستقبل إختصاصاتنا وجامعاتنا وصحافتنا وحريّتنا في عصر من الفوضى الفضائية والجهالة في امتطاء أساليب الذكاء السخيف والإصطناعي.
منذ ال 1990 سادت أسطورة نتذكّرها اسمها "تؤلّف ولا تؤلفان" اجتاحت أجهزة الكومبيوتر والبرامج في العالم، تابعنا معها موت الصحف والمجلات والكتب وتكديسها في المكاتب والمدارس والجامعات والبيوت إذ اجتاحنا التخزين الضوئي واضعاً بتصرّف إصابعنا المكتبات العالمية الهائلة مثبتاً الحضارات الخيالية الضوئية في عوالم الصحافة والطباعة والقراءة والكتابة. ورحنا نمضي بقايا أعمارنا في المواقع خلف نصوص مقطّعة بالإعلانات ُتقرأ على الشاشة الصلبة واللينة التي سيتمّ تجهيزها لتطوى في الجيوب الخلفية من سراويل "الجينز" الممزقة والمترهلة بل المتّسخة بصفتها الموضة والمعاصرة يرتديها أولادنا وأحفادنا كما شابات العالم وشبابه.
لماذا هذه المقدّمات مجدداً؟
1- لأنّ همساً بتوقّف صحف ورقية باقية تعاند العصر في لبنان "الميديا ستيت"،وتُزاحمها المواقع الإلكترونية الرسمية والمشاعية التي بلغ عددها 223 أو أقلّ أو أكثر وفقاً للأستاذ عبد الهادي محفوظ رئيس المجلس الأعلى للإعلام المرئي المسموع بحيث أنك تجد في مدينة صور وحدها ما يتجاوز ال100 موقع. تنقل معظم المواقع خبر دبيب نملةٍ تتحرك في لبنان لتُصبح النملة في موقعٍ آخر جملاً في باحة "الداون تاون". يغلب على العديد من أخبار المواقع المعلومات الحرّة بلا ألفٍ ولام أي غير الصحيحية ولا الدقيقة في "الساحات اللبنانية السائبة والمتشظية"، فتضيع الحقائق في متاهات الكذب والإفتراء والإساءات والقدح والذم والفلتان الغرائزي العشوائي. ماتت القوانين واستبيحت ليُصبح التصويب أو التكذيب خاضعاً لإعلام اللحظة الإرتجالية، مع أنّه كان يُمكن لفكرة الحريّة في لبنان أن تجدّد موقع لبنان الإعلامي لا أن تُجهض أخلاقيات الإعلام وصدقيته.
2- لأنّني استعيد كلاماً للروائي والصحافي نبيل خوري: "إنّني مسكون بغربتين في حياتي جعلتهما عنوان روايتي :"الغربتان". الأولى انسلاخي عن القدس مكان ولادتي إلى بيروت التي انسلخت عنها نحو غربتي الثانية في باريس وتأسيس مجلّة "المستقبل". الغربة الثالثة الأشدّ والأقسى التي يُروّج لها ستكون بتخلّي الصحافة المكتوبة عن لذة الكتابة والورق والحبر واجتماعات التحرير". قال لي هذا وكنت أحد مسؤولي "المستقبل" التي اعتبرت منذ صدورها في ال1975 في طليعة الصحافة المهاجرة من لبنان بسبب الحروب. عادت من غربتها بعدما اقتناها رفيق الحريري لتصير صحيفة وشاشة تلفزيونية وأونلاين في لبنان وكذلك تيّاراً سياسيّاً. مات نبيل خوري في ردهة مطار بيروت دون أن يُدرك غربته الثالثة، واغتيل الحريري يوم عيد الحب في ال2005 وأدار سعد الحريري ضهره إلى لبنان نحو الإمارات وتوقّف "المستقبل" بكلّ تسمياته.
3- لأنّ إنسلاخ نبيل خوري الأكثر سعادةً عن العالم كان عند استرخائه في مكتبه في الشارع رقم 41 جورج الخامس في الشانزيليزيه بباريس، ورأسه بين يدي مصفّف الشعر الذي كان يزوره مرّتين يومياً قبل الظهر وعند المساء.
كان يمكننك خلال استرخائه أن تطلب التوصيات والزيادات والمكافآت المالية والإجازات للزملاء والرجل طافح بالرضى والسرور.
سألته مرّةً عن السر. قال:
"أخذته عن سعيد فريحة الذي بدأ حياته مساعداً لمصفّف شعر في حلب ليصبح أحد اباطرة الصحافة العربية ومصفّف أظرف المقالات يلازمه المزيّن كصديقه اليومي الأقرب والأحب.
كيفما تقفّيت أحاديث كبار الصحافيين ومقالاتهم، تسبقك قصص سعيد فريحة ونوادره بنكهته وظرفه ونباهته، وكأنه البرق يزاوج المقصّ الحاد بالقلم الحذق يقدحه لطيفاً فيطلع اللغم الجميل فيك وأنت تسمعه وتقرأه مبتسماُ فتستغرق معه ضاحكاً متعرّقاً لشدّة الفطانة.
كانت الصحافة المكتوبة يومها هي السلطان.
بعد 58 عاما على صدورها غابت "الصياد" و"الأنوار" و"الشبكة" و"فيروز" و"الفارس" و"الدفاع العربي" في ال2018، وهبّت عاصفة أخرى غابت معها صحيفة "السفير" و"البيرق" ثم "الحياة" وها نحن نسبح في صحافات المواقع بألف لونٍ ولون .
كان ولده بسّام فريحة قد غاص في الخليج العربي ونهضته ليحمل جنسيةٍ خليجيةٍ في وطنه الثاني/ الأوّل.
سألت إبنته إلهام فريحة قبل الإقفال:
"من الورق إلى "الأونلاين" إذن ؟ ماذا بعد؟
بذبل مقالها اليومي اليوم إن لم يقرأ منه سطرين الصحافي "جوني الصدّيق" في السادسة صباحاً من كلّ يوم عبر أثير إذاعة "صوت الغد".
وأسأل أخيراً: من يُخلّد عمالقة الصحافة العربية التقليدية ومنهم محمد حسنين هيكل والشقيقين تريم عمران تريم والدكتور عبد الله عمران تريم وسعيد فريحة وكرم ملحم كرم ورياض طه ونبيل خوري وغسان تويني وشقيقي راجح خوري وغيرهم في السماء؟