"لا يوجد سوى سؤال فلسفيّ واحد جاد فعلًا، وهو الانتحار، هذا ما قاله الفيلسوف "ألبير كامو" وأضاف متسائلًا "هل يوجد قيمة للحياة"؟ ما كان هذا التّساؤل إلّا تحويل مسار الفلسفة الّتي طالما كان سؤالها الأوّل "من أين"؟ و"إلى أين"؟ والإجابة نطفة من أجل الوصول إلى الحياة الهنيّة!.
لم يستوقفني فكر "ألبير كامو" وأسئلته الوجوديّة عن قيمة الحياة وجوهرها ومعانيها، إلّا بعد اشتداد الأزمة الاقتصاديّة وازدياد عدد الأشخاص الّذين يقدمون على إنهاء حياتهم بعد أخذ جرعات زائدة من الخيبة الحادّة، والقلق القاهر، والكآبة الشديدة، وكثير من اليأس القاتل كلّ لذة في الوجود. لتصبح مشهديّة نهاية الحياة الرّاحة الوحيدة من عنائها.
ليس في هذا المقام مجال لشرح أنواع الانتحار الأربعة الّتي حدّدها عالم الاجتماع "إميل دوركهايم" وهي: الانتحار الأنانيّ، والإيثاريّ، واللامعياريّ والقدريّ، ويربطها "دوركهايم" بالتّفسير السّوسيولوجيّ. غير أن انتشار آفات الانتحار في لبنان، والعدد المتزايد في السّنوات الماضية، لأمر خطير يجتاح الإنسان في مختلف شرائحه العمريّة. إنّ الإحصاءات في الدّوائر الرّسمية للشّهر الأوّل من السّنة ٢٠٢٣، في أسبوعين منه فقط، كشفت عن ١١ حالة انتحار، أضف إلى ذلك، الكثير من الحالات الّتي لم يصرّح عنها لأسباب عائليّة، على سبيل المثال مريض يمتنع عن أخذ العلاج بسبب فقدان الدواء وغلاء سعره.
يبقى دور العائلة الضّمان الأوّل في موضوع الحماية من هذه الآفات القاتلة. ولا يسعنا أن ننسى دور الأصدقاء والرّفاق في هذا المجال، إذ عليهم معاينة بعضهم بعضًا. فمن الواجب الانتباه إذا ظهر لهم أنّ أحد المقرّبين لهم فقد محوريّة وجوده وأسسها، مهما كانت حالته ظاهريّة، فهي تعبّر عن عدم المبالاة لا سيّما إذا أعلن عن نيّته بالانتحار ولو ممازحًا أو بطرائق متزايدة. مثلاً إن كانت محوريّة حياة أحد الشّباب المال، وفقده، حتّى لو كانت لديه زوجة وأطفال رائعون، يجد نفسه سائرًا نحو إنهاء حياته. أو إن كان الحبّ أو شخص معيّن هو محوريّة وجوده، وفقده، كذلك، يجد نفسه أمام باب مقفل حتى ولو كان له كلّ ما يتمنّاه الآخرون، فهو يشعر بأنّه فقد أساس وجوهر حياته، فينتابه شعور بالهروب من الحياة الّتي لم يعد لها أيّ قيمة فعليّة في نظره.
لذلك هؤلاء بحاجة ماسّة إلى من يعيد لهم بنيويّة وجودهم. لذلك، تُعدّ التّوعية الاجتماعيّة في موضوع إنهاء الحياة حاجة ملحّة في مجتمعنا الشرقيّ واللبنانيّ، على وجه الخصوص. إضافةً إلى ما شهدناه من انتحار جماعيّ في سفن الموت، إذ يأخذ الأب خيار السّفر، فلا يجد أيّ سبيل لخلاصه وبناء المستقبل إلّا خارج البلاد فمن السّهل أن يختار الرّهان على الحياة خارجًا لأنّ الحياة والموت في وطنه سيّان عنده.
وحرّيّة الحياة ليست مطلقة في يد الفرد، إنّما هي رهينة بيئته الاجتماعية وظروف حياته وقيمة وجوده، وهي أيضًا مرهونة بالتّراكمات التي بنيت عليها محوريّة وجوده. أكّدت الهزّات الأرضيّة، الّتي شعرنا بها، للعقل اللاواعي أنّ لا شيء ثابت في هذا الوجود، فعلينا أن نبني شخصية الكائن على أساس متين. هذا ما أعادني إلى الكتاب المقدّس، للمثل الذي أعطاه السيّد المسيح، ولطالما كان تأملي به مادّيًا، فقال:"وَلِمَاذَا تَدْعُونَنِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ، وَأَنْتُمْ لاَ تَفْعَلُونَ مَا أَقُولُهُ؟ كُلُّ مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ وَيَسْمَعُ كَلاَمِي وَيَعْمَلُ بِهِ أُرِيكُمْ مَنْ يُشْبِهُ. يُشْبِهُ إِنْسَانًا بَنَى بَيْتًا، وَحَفَرَ وَعَمَّقَ وَوَضَعَ الأَسَاسَ عَلَى الصَّخْرِ. فَلَمَّا حَدَثَ سَيْلٌ صَدَمَ النَّهْرُ ذلِكَ الْبَيْتَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُزَعْزِعَهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى الصَّخْرِ. وَأَمَّا الَّذِي يَسْمَعُ وَلاَ يَعْمَلُ، فَيُشْبِهُ إِنْسَانًا بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الأَرْضِ مِنْ دُونِ أَسَاسٍ، فَصَدَمَهُ النَّهْرُ فَسَقَطَ حَالًا، وَكَانَ خَرَابُ ذلِكَ الْبَيْتِ عَظِيمًا"! (لو 6: 46-49).
بعد كلام السّيّد المسيح يبقى السّؤال: علامَ أبني محوريّة وأسس الذّات البشريّة؟ وحده الله ثابت إذ هو على حدّ قول القدّيس توما الأكوينيّ، فيلسوف الكنيسة، المحرك الأوّل للعالم، فهو غير متحرك وثابت أبدًا هو الذي هو، الله.
وحده السيّد المسيح القائم من الموت، هو الذي غلب الموت بالموت، ليعطينا الحياة واضعًا حدًّا للدّراما الإنسانيّة التي هي الموت، لتكون محوريّة حياتنا الحياة.