يذرف السيّد دموعه فوق ركبتي أبيه الذي في السموات ويذرف اللبنانيون بقايا أعمارهم وأوطانهم لأنّ لا وطن واحداً لهم، يرمون ما طالت أيديهم وألسنتهم على لبنان واللبنانيين.
أتعرفون لماذا؟
لأنّ هولاكو المغولي وّلد في لبنان كما روى لي مقتنعاً المؤرخ العظيم يوسف ابراهيم يزبك في مكاتب المستقبل في باريس، والريق يتطاير شرراً من بين شفاهه. كان أبو براهيم في الثمانين رحمه الله.
لا تقرأونني إذن! لا تقرأونني!
فاضت دموع السيد فوق نهر الأردن الذي غُطّس وتعمّد فيه حزناً على أنسبائه وممثّليه وأبنائه والسلاطين والمتسلطنين باسمه في الأرض.
قال عن الأرض قاصداً بها لبنان. هو لم يقصد. قصدوا هم.
كان يودّ القول: في البدء كان الإنسان المُعدم الفقير الهائم الجائع فوق وجه لبنان، لكنه رأى الكلمة تتجرجر خلفه وفوق ألسنتهم عبر أرض النبؤآت والمعجزات خائبةً مذلولةً فوق بيادر القحل الأبدي في الدنيا.
كان لا بدّ للسيّد من تهديم الهياكل فوق رؤوسهم بالسوط والصوت.
لا تقرأوا نصّي، إذن.
انتهى الإيمان بلبنان والإعتبار للبنان بكونه المكان غير القابل للسيادة وللإصلاح وعيش البشر.
لقد فلتت كلمته ولو حفظتم، وطارت حرّة، وهي تُباع اليوم في الزوايا وعلى أبواب الكنائس ثياباً مزركشة وقبباً مذهبة وسلطات متفرّقة ذليلة منهكة.
وتسألون الخلاص؟
وماذا بوسعه أن يفعل لكم إذا ما التهمتم أخوانكم وعائلاتكم ووطنكم وأنفسكم بعدما رميتم لبنانكم أمام هولاكو وأولاده وأحفاده وأحفاد أحفاده، وكأن السكان قطعان ماعز لا تنتهي تسرح جائعةً في أدغال لبنانكم الأخضر الجميل بالنشيد والأحلام دون وعيكم أنّ صاعقة صرخت وتصرخ نشيداً ناعقاً كلّ صباح:
"مات لبنانكم إلى دهر الدهور".
وتأتيني المواعظ من الخائفين من هولاكو:
"لسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك"
و"المرء بأصغرية قلبه ولسانه". لا قلوب لكم بل كرات من حديد
ولا ألسنة في مغاوركم بل مواء ونعيق.
تفلت المواعظ والخطب والتحليلات والأخبار والأسرار والوصايا فتعلو جبال القمامة المتراكمة في شوارع بيروت وفوق الشواطيء تتظاهر الحيتان عاريةً يتدرّبون للسير نحو قصوركم.
ويبقى اللسان اللبناني مشقّقاً يُخيّل إليه بأنّه حامل نصوص بدايات خلق الدنيا ونهاياتها.
كم غاب بشر في ديارنا بسبب ألسنتهم بعدما نطقت واختلّت موازينها؟
وكم انزلق رجال ونساء فوق ريق ألسنتهم نحو حبال المشانق؟
وما زال هو هولاكو الحاكم بأمر السماء ومعه أولاده الذين يُعدّون بالقناطير لا بالنسمات من نسمة إلى نسمة تتراكم نسمات تؤمّن الحرائق.
يتزحلق اللسان اللبناني بألعابه الجهنّمية في أرجاء الدنيا وعواصمها وباللغات كلّها، طيّع لكلّ وافدجٍ وغريب، عضلاته رخوة تستسهل الخطى. تبيع وتشتري كلّ شيء.
"من تزوّج أمّك صار عمّك".
أتلاحظون كيف تقوى حفلات مص الأكواع والقصب الفارغ وحني الرؤوس وتقبيل الأيادي ولعق الأحذية لكسب كلّ شيء وأيّ شيءٍ على حساب مصالح العام ولو كان هذا الشيء غرشاً مقدوحاً.
سرعان ما تغيب الثورات فينا كما الكلمات والمقالات والمقابلات تقع في الوحل لتختنق في قعر الفجائع والندم أوالصمت وإلاّ في السجون وتحت النعال
وتبقى الأعناق تتشاوف أبداً إلى فوق.
الذين كتبوا ويكتبون والذين ثاروا ويثورون هم من النوع الذي يخلط الزيت بالماء . لا الماء سيتزحلق بلعبة الزيت، ولا الزيت سيضاف مادةً جديدة إلى مواد الخلق الأربع الكبرى.
مجمل الكتابات في لبنان، إذن، من هولاكو إلى اليوم تتراكم جبالاً من الخطايا نحفرها فوق الدفاتر بعد أن نرضعها لأطفالنا ونمهر بها أيدينا والعقول والأجيال، ويبقى التغيير والتجديد، بل وتبقى الثورات مثل مراوح اليانصيب والتلفيقات والأكاذيب وأقنعة أبدية مدفوعة ومرفوعة بيادق في الأنفاق والساحات.