منذ ما قبل بدء "البازار الرئاسي"، عشية انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، شكّل "حزب الله" ولا يزال "قبلة أنظار" الكثير من المتابعين لاستكشاف موقفه من الاستحقاق، إما بناءً لاعتقاد تكرّس في انتخابات 2014-2016 أنّ "مرشحه" للرئاسة لا بدّ أن يكون "الرئيس العتيد"، عاجلاً أم آجلاً، وإمّا لتحديد الموقف بناءً على تموضع "الحزب"، خصوصًا من جانب معارضيه الذين لا يمكنهم "التقاطع" معه على موقف واحد.
وبالفعل، تعرّض "حزب الله" للكثير من الانتقادات طيلة فترة "صيامه" عن الإعلان "المباح" عن موقفه، وتمسّكه بالورقة البيضاء في كلّ جلسات الانتخاب الرئاسية التي عقدها مجلس النواب، حتى قيل إنّه "تخلّى" للمرّة الثانية عن رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، كرمى لعيون رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، قبل أن تتدهور العلاقة مع الأخير، ويتحرّر "الحزب" من كلّ القيود، وربما الالتزامات، المترتّبة عليها.
لكنّ الجدل حول موقف "حزب الله" لم ينتهِ، حتى بعد إعلان دعمه لفرنجية، بين من وضعه في خانة "رفع العتب"، نظرًا لعجزه عن "إقناع" باسيل بالسير به، وهو شرط لا بدّ من توافره لإيصال الرجل إلى قصر بعبدا، ومن رآه "جدّيًا إلى أبعد الحدود"، في ظلّ عدم وجود أيّ "خطة باء" في أجندة الحزب الرئاسية، بدليل عدم مراعاته لخواطر باسيل "الممتعض"، وصولاً لإسقاط "تفاهم مار مخايل" بالضربة القاضية، في سيناريو لم يكن متوقّعًا.
ووصل الجدل إلى "ذروته" خلال الأسبوع الماضي، بعد مواقف لقياديّين في "حزب الله" وضعها خصومه، وبينهم "التيار الوطني الحر" للمفارقة، في خانة "الاستقواء ومحاولة الفرض"، قوامها كما فسّرها هؤلاء "إما فرنجية أو الفراغ"، فما حقيقة موقف "الحزب" من الاستحقاق الرئاسي؟ هل يذهب إلى النهاية بهذا الشعار، ليؤمّن وصول الرجل إلى بعبدا كما فعل مع عون قبل ستّ سنوات ونيّف، أم أنه يبدي "مرونة وليونة" أكبر هذه المرّة؟.
بالحديث عن "فرنجية أو الفراغ"، يستند خصوم "حزب الله" إلى موقفين أساسيّين صدرا عن قيادات من الصفّ الأول في الحزب، إن جاز التعبير، هما نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم الذي تحدّث صراحةً عن مرشحين "أحدهما جدّي، والآخر هو الفراغ"، ورئيس المجلس التنفيذي السيد هاشم صفي الدين الذي دعا إلى "اغتنام الفرصة"، عبر القبول بـ"العرض" الذي يقدّم الآن، لأنّه قد لا يبقى "مُتاحًا" في مراحل لاحقة، قد لا تكون بعيدة المدى.
يعتبر معارضو الحزب أنّ الأخير يحاول بهذه المواقف "فرض" فرنجية رئيسًا "بقوة الأمر الواقع"، شاء من شاء وأبى من أبى، فهو يخيّر اللبنانيين صراحةً بينه وبين الفراغ، علمًا أنّ بين المعارضين من لا يتردّدون في "تفضيل" الفراغ على من يصفونه بـ"مرشح حزب الله"، باعتبار أنّ انتخاب فرنجية، وفق هؤلاء، سيؤدي إلى "تمديد" الأزمة ستّ سنوات أخرى، لأنّ عهده سيكون "استكمالاً" لعهد الرئيس السابق ميشال عون، لا أكثر ولا أقلّ.
ولعلّ "المفارقة" في النقاش الدائر تكمن في وقوف "التيار الوطني الحر" إلى جانب المعارضين في التصويب على منطق "حزب الله" هذا، ولو اختلفت "الأدبيّات" نسبيًا، إذ إنّ "العونيّين" الذين استفادوا من "تكتيك" الحزب سابقًا، والتزموا معه بشعار "عون أو الفراغ" يعتبرون أنّ الأمر لا يمكن أن يسري على فرنجية، وأنّ الظروف الحالية لا تتحمّل "فراغًا طويلاً"، ما يتطلب من رئيس تيار "المردة" الانسحاب تلقائيًا وسريعًا من السباق.
لكنّ موقف "الخصوم"، وبينهم أو معهم "التيار الوطني الحر"، لا يجد "الصدى" لدى مؤيدي "حزب الله"، أو متبنّي ترشيح فرنجية، الذين يعتبرون أنّ تصريحات الشيخ قاسم والسيد صفي الدين "حُرّفت" عن سياقها، عن "سوء نيّة" بالدرجة الأولى، علمًا أن المشكلة الرئيسية ليست في دعم "حزب الله" لمرشح "طبيعي" للرئاسة، وهذا حقّه المشروع، ولكن في "عجز" الرافضين لهذا الترشيح، عن التفاهم على مرشح "جدّي" موازٍ.
يشرح هؤلاء أنّ الشيخ نعيم قاسم مثلاً لم يقل إنّ "حزب الله" يبني مقاربته للاستحقاق على شعار "فرنجية أو الفراغ"، إنما وصّف الوقائع لا أكثر ولا أقلّ، فهو قال إنّ هناك مرشحين "أحدهما جدّي، والآخر هو الفراغ"، ما يعني أنّ لا وجود لمرشح جدّي "ينافس" فرنجية حتى الآن، في حين أنّ حديث السيد صفي الدين جاء في سياق الحديث عن المتغيّرات المتسارعة في المنطقة والإقليم، منذ الاتفاق السعودي الإيراني، والتي لا بدّ أن تنعكس على لبنان.
ويحيل المؤيدون لـ"حزب الله" المهتمّين إلى الموقف الصادر عن كتلة "الوفاء للمقاومة" الذي كان أكثر وضوحًا حين رفضت نبرة "التحدّي في الخطاب السياسي"، وقالت إنّها "إذ تدعم مرشحًا طبيعيًا لرئاسة الجمهورية فإنّها تحثّ الآخرين لإعلان مرشحهم وتدعوهم للحوار الجاد والمسؤول"، مشدّدة على أنّها "لا تصادر رأي أحد في البلاد، كما أنها لا ترضى مصادرة رأيها من قبل أحد أيضًا"، وفق ما جاء في النصّ الحرفي للبيان.
بهذا المعنى، يتحدّث هؤلاء عن "ليونة" لدى الحزب، رغم تمسّكه بفرنجية، فالكرة في ملعب القوى المعارضة، التي لم تستطع حتى الآن أن تفرز مرشحًا قادرًا على المواجهة، ولذلك تفضّل التصويب على الحزب لكسب الوقت ربما، كما أنّها من يرفض المبادرات "الحوارية" بمجملها، علمًا أنّ "ضعف" موقفها هو الذي "يقوّي" ورقة فرنجية، بدليل أنّ الفرنسيّين الذين تعرّضوا بدورهم للهجوم، ساروا بفرنجية، لأنهم لم يجدوا مرشحًا آخر، بالحيثية التي يملكها.
لا يعني ما تقدّم أن "حزب الله" في وارد "التخلّي" عن رئيس تيار "المردة"، إذا لم ينسحب الأخير "طوعًا" من السباق الرئاسي، ولو أنّ هذا الاحتمال بعيد نسبيًا، بالنظر لكون الرجل مقتنع بأن حظوظه هي الأعلى، وهو انتقل إلى مرحلة أكثر تقدّمًا، مع إطلالاته الإعلامية الأخيرة، ولو لم يقرنها بإعلان رسميّ للترشيح، إلا أنّ الحزب يدعو الجميع لممارسة "اللعبة الديمقراطية"، وبالتالي احترام "حقّه" بدعم من يشاء للرئاسة.
في النتيجة، قد يكون من الطبيعي أن يثير موقف "حزب الله" توجّس خصومه، الخائفين من تكرار تجارب سابقة، ولو "بالغ" بعضهم في "انفعالاتهم"، لحدّ اعتبار أحدهم مثلاً أن عدم انتخاب فرنجية سيشكّل "استقلالاً جديدًا". لكنّ ما قد يكون غير طبيعي، أن تقتصر "ردود فعل" هؤلاء المتوجّسين على "الحكم على النوايا"، بدل العمل لـ"توحيد" موقفهم بالحدّ الأدنى، من خلال الاتفاق على مرشح "جدّي" يستطيع أن يكون "ندًّا" لفرنجية!.