لم يسجّل التاريخ اللبناني الحديث صحّة أي موقف سياسي أو ميداني إتخذه رئيس حزب "القوات" سمير جعجع. رغم ان "الحكيم" يتزعّم أكبر حزب مسيحي شعبياً ونيابياً، حالياً. فهل يصح خيار جعجع هذه المرة بعد سلسلة إخفاقات؟.
تنطلق القراءة من ملف انتخابات رئاسة الجمهورية، بعد عملية حسابية اجراها رئيس حزب "القوات" وتبيّن معه أنه عاجز عن فرض أي مرشح لرئاسة الجمهورية. سبق وتبنّى ترشيح النائب ميشال معوّض، الذي دعمته كتل وقوى أخرى، منها مجموعات "التغييريين"، ثم قال "الحكيم" انه مستعد لإنتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون، كما درس امكانية ترشيح او تبني آخرين.
يوحي حراك وخطاب جعجع الاعلامي أنه يتحكّم باللعبة، لكن تبين له انه لا يستطيع حشد أكثر من 33 نائباً عندما يجدّ الجد، وبالتالي فهو بحاجة إلى الآخرين لمنع وصول رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية الى بعبدا.
يتصرف جعجع بحساسية تجاه زعيم "المردة"، ويبدي قلقاً واضحاً من إمكانية وصوله الى رئاسة الجمهورية، رغم ان فرنجية حاول ان يُظهر سياسة وفاقية في التعاطي مع خصومه، وفي طليعتهم "الحكيم".
بالمقابل، يعرف رئيس التيار "الوطني الحر" النائب جبران باسيل أنّ جعجع يحتاج إليه، ولا يقدر ان يحقّق امراً من دون تكتل "لبنان القوي"، ومن هنا يبدو باسيل كعادته أكثر دراية وحنكة سياسية من جعجع. سبق وأن جرّه الى بيت الطاعة عام 2016، ثم تبرأ "الوطني الحر" من الإتفاق الذي حصل معه في معراب. يومها إعتقد رئيس "القوات" أنه يستطيع ان يُقاسم باسيل السُلطة، ليتبيّن لاحقاً ان رئيس "الوطني الحر" لاعب سياسي ماهر: إستخدم ورقة معراب، ثم رمى الإتفاق في سلة المهملات.
فماذا فعل جعجع حينها؟ اوحى اولاً انه صانع العهد، لكنه انصرف سريعاً الى المعارضة ورفع سقف خطابه السياسي ضد العهد، الى ان تفوّق على التيار "الوطني الحر" في الانتخابات النيابية بفارق اصوات شعبية كبير، وعدد نواب قليل. لكن حنكة باسيل السياسية اشدّ ذكاء من خبرة "الحكيم"، فعاد رئيس "الوطني الحر" لفرض شروطه السياسية والرئاسية على "القوات": اصوات تكتل "الجمهورية القوية" لمرشح باسيل الوزير السابق جهاد ازعور، مقابل وعود أقل بكثير من تلك التي اوردها اتفاق معراب. لا مشكلة عند جعجع ابداً، طالما يمنع الأمر وصول فرنجية الى بعبدا. قد تكون الاسباب شخصية، او تاريخية، او خوفاً من الزعامة المستقبلية. كان سيتصرف "الحكيم" كذلك ايضاً لو كان المرشح باسيل نفسه، او رئيس حزب "الكتائب" النائب سامي الجميّل. انها عقدة الزعامة والرئاسة الاولى عند الاقطاب الموارنة.
يخطط "الحكيم" كعادته، ويضع سيناريوهات، ويسعى لتنفيذ اهداف، فينجح تكتيكياً في الشكل، ليتبيّن انه يفشل في تحقيق اهدافه إستراتيجياً، لأنه يرسم معادلته على قاعدة ما يتمناه ويرغب به: اين كسب جعجع معركة سياسية يوماً؟ يوجد في قاموسه تخطيط وتحضير، وتخلو مسيرته من اي نجاح وازن.
عندما تستقر الساحة اللبنانية بعد انتخاب رئيس للجمهورية، ويدخل لبنان في مساحة الاستقرار الذي تفرضه التسوية الاقليمية، سيسأل جمهور "القوات" رئيس حزبهم: ماذا انجزت لنا؟ الجواب سيكون شعارات حفظها اللبنانيون، لكن عملياً لا انجازات ولا مكاسب، خصوصاً في حال شذّ جعجع عن الخريطة السياسية الجديدة للاقليم التي يرسمها ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان بخطوات زعامتية واثقة.
يمكن استحضار تجربة نائب استشرف المرحلة المقبلة باكراً: سيزار معلوف هو عضو كتلة "الجمهورية القوية"، سبق ان رفع صوته عالياً على طاولة معراب: لا تغردّوا خارج الواقع السياسي والشعبي اللبناني، واقرأوا الجغرافيا وابعاد الديمغرافيا في لبنان والاقليم. سمع "الحكيم" وتجاهل. يومها انتخب المعلوف رئيس المجلس النيابي نبيه بري على عكس قرار جعجع، وطالب المعلوف "القوات" بتسمية رئيس الحكومة سعد الحريري، احتراماً للواقع الاسلامي. وعندما جاء المازوت الايراني وايدّه المعلوف لتخفيف الاعباء عن الشعب اللبناني، وخصوصاً في البقاع، فصله التكتل من صفوفه، ليقرّ جعجع بعد سنة بصحّة رأي المعلوف.
وهكذا، غيّب "الحكيم" صوت العقل والجمع الوطني عن طاولته، لتأتي التسوية الاقليمية وتثبت رأي المعلوف، بينما يتّجه جعجع حالياً لتكريس وجهة نظره المعاكسة للواقع الاقليمي، عبر وصفه اولاً الرئيس السوري بشار الاسد بالجثة السياسية في وقت تتولى فيه كل من المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة اعادة احتضان الاسد عربياً.
فهل يمضي جعجع بمشاكسة تسوية بن سلمان في محطتها اللبنانية؟.
بجميع الاحوال، تشكّل انتخابات رئاسة الجمهورية محطة لمعرفة مسارات لبنان المقبلة، وعليه ترسم القوى السياسية احجامها في الداخل والاقليم، وسط معلومات عن تفاوض سياسي مفتوح يقوم به باسيل مع "حزب الله" بشأن مكاسب المح اليها خلال مقابلته التلفزيونية كالصندوق السياسي واللامركزية الادارية وغيرها، للانخراط بالتسوية. فلننتظر، اما يلتحق باسيل بالمشروع الاقليمي التسووي، او يلتحق جعجع ببيت الطاعة عند باسيل. في الحالتين سيتفوّق رئيس "الوطني الحر" على رئيس "القوات".