يسحبني تمزّق شابات وشباب لبنان الغابر والطائفي الرهيب الحاضر في وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي نحو العام 1984. أشعر بخوف من العودة الى المعابر وأزمنة العبور بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية حيث الإذلال والخطف والقتل والسحل ووو….الخ.
واليكم تجربتي بين البيروتين:
عدت من باريس ولا أحمد تلك العودة ابدا وكنت أقطن في قريطم في ما سُمّي بيروت الغربية، ورحت أقطع الحواجز نحو بيروت الشرقية على وقع خطى الخطف والموت قنصاً. أعبر صباحاً لفترة أسبوعين نحو كلية الإعلام الفرع الثاني في الفنار بعد تفريع الجامعة اللبنانية ثمّ أعود إلى بيروت الغربية فباريس هرباً من كوابيس حواجز المعابر الطائفية اليومية وأروح أتحسس عظمة الحياة في الطائرة تسري في جسدي فأنام حالما بالوصول الى باريس التي عشقت وما زلت وبرحت.
نصحني أحدهم بأن أحمل هويتين يسهّلان انتقالي بين المعابر قال:
أزل النقطة من فوق حرف الخاء برأس شفرة فتصبح شهرتك الحوري والخوري واقفز فوق الحواجز الثابتة والطيارة وهكذا كان.
ذات صباح وقعت بين أيدي مسلّح قال محتدماً وهو يدقّق في هويتي: أنت خوري؟ فوجئت مدركاً خطأي بين الهويتين، قلت مبتسماً: لا. أجاب كيف؟
أجبته ضاحكاً: لربّما فعلتها ذبابة فوق حرف الخاء فصرت خورياً. وكأنّه ضحك أو أجبرته بذكاء على بلاهة الضحك . رمقني بعينه قائلاً: مع السلامة.
هربت في الأسبوع التالي نحو باريس وكنت أحد مسؤولي مجلة "المستقبل" التي جعلها الشهيد رفيق الحريري صحيفةً وشاشة وتيّاراً سياسياً في لبنان الذي تجعّد وزمّ مذ اغتيل أبو بهاء رحمه الله واقعاً في لبنان "جبّ البلاّن" كما كنت أسمّيه له رافضاً العودة نهائياً إلى هذا الوطن الشائك.
التقيت هناك صدفةً في جادة الشانزيليزيه إدوار سابلييه وكانت تجمعنا نقابة الصحافة الفرنسية وهو من كبار مراسلي صحيفة "الموند"، وترأّس جمعيّة "الصحافة الدبلوماسية الفرنسيّة " وبقي رئيس شرف لها حتّى وفاته في 12 آذار 2006، وكنت بدوري أيضاً أحد مؤسسي "اتحاد الصحفيين العرب في باريس". دعوته إلى مقهى وتبادلنا الأوضاع القاتمة في لبنان، وأخبرني عن كتابه الجديد بالفرنسية الأكثر مبيعاً في لبنان بعنوان: "الخيط الأحمر، التاريخ السرّي للإرهاب الدولي".
برق العنوان في رأسي حلاّ يمكن أن أتأبّطه مُغرياً به طلاّبي في الشرقية لتعريب نصوص متطرفة تخشّن براءتهم، وأعدهم بتدوين أسمائهم في مقدمة الكتاب المترجم عند نشره بإشرافي. أخبرته بالفكرة. غاب قليلاً ليعود بنسخةٍ قدّمها لي وذيّلها بتوقيعه رافضاً ثمنها على غير عادة الفرنسيين بشكلٍ عام.
جاء في مقدّمة كتابه؟
"تقودنا مسارح الجرائم إلى الشكوك بمتطرفي اليسار واليمين على السواء، الثائرون منهم والمحرّضون والمتنوّرون. لكلّ قصّة معطياتها التي تفضي بنا إلى المجهول والإحباط. معظم الإرهابيين يلقون المصير الواحد. يعشقون العنف بصفته طريق الثورة العالميّة. يأتون من منظّماتٍ متشابهة يربطها كلّها مشاعر الكره والحقد على العدو. يُلقّمون كيفية استعمال الأسلحة ويقومون بعملياتهم بدماء باردة. أين كارلوس؟ أين هي الألوية الحمراء؟ أين أنور السادات وبشير الجميّل والسفير الفرنسي دولامار في بيروت، خطف ألدومورو، مذابح الألعاب الأولمبيّة، محطة قطار بولونيا، محاولة اغتيال البابا بولس الثاني ...إلخ".
هكذا قاد سابليه خيطه الأحمرمن هافانا إلى مقاصل متعدّدة جعلت الإرهاب حيّاً".
فرح طالباتي وطلاب الصحافة لدى عودتي باقتراح ترجمة الكتاب ونشره،لأنّ إدوار سابليه من "الموند" الذائعة الشهرة بدأ مهنة الصحافة وكان عمره 25 سنة، وزاد من فرحهم عشق سابليه للجنرال شارل ديغول الذي ما زال يعتبره بعض اللبنانيين وكأنه لبناني ينتظرون استنساخه في لبنان.
سابليه بكلمتين، ولد في بغداد وكان والده ملحقاً بالسفارة الفرنسية هناك لكنه التصق باللبنانيين بعدما أخذتهم الصراعات والحروب. هكذا نجح "الطُعم" الأكاديمي إذن في جذب طلابي نحوي أستاذا ثمّ مديراً لكليّة الإعلام فانخرطوا بالنقاشات السياسية الصعبة والمتنوعة فاتحاً نوافذ حماسهم للصحافة الواسعة.
قضيت عامين أعرّب معهم نصوصاً صحفية عادية، وأوزّع عليهم نصوص الكتاب لترجمتها للعربية في بيوتهم. تلاشت الحواجز الأكاديمية، وفُتحت إمكانيات نقلٍ نصوص عن فلسطين والعرب والعروبة وسوريا وراقتهم الصحافة بعيون وآذان متعددة مفتوحة على العالم حتى لو خالفت مناطقهم ومذاهبهم وقناعاتهم، وأيقنوا بأنّ التشبّث بحريّة الإعلام بالألف واللام هي أسس بناء الأفكار والآراء والثقافات بل الأوطان.
قمنا بعد ذلك بتعريب كتاب ناحوم غولدمان الشهير المعنون: Où Va Israel أي "إسرائيل إلى أين؟" ونشرته مطبوعاً بالعربية في العام 1985 فطاروا فرحاً إذ رأوا الكتاب مطبوعاً. لم يكن سهلاً ، في ذلك التاريخ، إصدار كتابٍ عن إسرائيل التي اجتاحت لبنان في ال1982 وبلغت قصر بعبدا، وبقلم ناحوم غولدمان المساهم بإنشاء المؤتمر اليهودي العالمي ورئيسه بين 1956 و1968 وقد أثار كتابه ضجّةً في فرنسا لأنّه اعتبر فيه بأنّ إسرائيل على طريق الزوال لكنه، بالمعنى الوطني، أيقظ بعض صحافيي المستقبل على دور الجامعات في تفكيك الثوابت السياسية والإجتماعية.
سألني أحد طلاّبي وقد تبوّأ مركزاً سياسياً مرموقاً : لماذا نشرت كتاب "إسرائيل إلى أين" ولم تنشر كتاب سابليه كما وعدتنا؟
أجبت: لأنّ سابليه لم يكن يغريني بسياساته وكتاباته، لكنّ كتابه شقّ طريقي الوعر عبر خطوط التماس الشائكة نحو كليّة الصحافة ولم يعبّدها والدليل أنني دُفعت مكرهاً ومهدّداً للإستقالة من إدارتها من دون أيّ مبرّرٍ.
كان غولدمان جواز سفري في حياتي الجامعيّة الشاقّة بسبب سياساتي وقناعاتي التي لم تتآلف أبداً مع الشروخ الطائفية التي أصابت لبنان وصدّعت أجيال الجامعة الوطنية اللبنانية بعدما تمّ تفريعها في ال1977 وتوزعت مبانيها وطلابها على المناطق والطوائف المتباعدة في المحافظات اللبنانية. هكذا فرّخ التفريع الجامعي أوطاناً صغيرة وتباعداً بغيضاً بين الأجيال قد يكون في أسباب هلاك لبنان الواحد.
حقّق الكتاب مبتغاه واستمرّ الإرهاب ثقيلاً باغتيال رفيق الحريري وغيره في لبنان والعالم ليحطّ في "الربيع العربي" وتداعياته بحثاً عن النقطة الختامية التي لم تجد مكانها النهائي بعد. تحصّنت مجازفتي الأكاديمية بين البيروتين بالوحدة الوطنية فتجاوزت كارثة التفريع وخرقته في كلية الإعلام وتعاقدت مع 7 دكاترة من طوائف مختلفة كانّ رائدهم المفكّر الدكتور حسين سعد، راحوا يقطعون المعابر بين البيروتين مثلي يحاضرون في بيروت الشرقية آنذاك ويدلفون مساءً إلى بيروت الغربية، ولهذا حيز خاص سأنشره ذات يوم لأن الإختلافات لا يجب أن تبيض الخلافات فتدمّر الأوطان.
عندما ترك سابليه صحيفة "الموند"، كتب رئيس تحريرها أندره فونتين:"يبقى إدوارعزيزاً بالرغم من الخلافات السياسيّة التي لم تُورثنا سوى التقدير والودّ". وأختم: يبقى كلّ من عرفت وزاملت في الجامعة اللبنانية أخاً عزيزاً بالرغم من بعض الخلافات الفكرية والسياسية التي لا تتجاوز حجم ذبابة في بناء الأوطان.
عضو الهيئة العليا للإشراف على الإنتخابات
أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه.