ثمة إدراك متزايد لدى العديد من الدول في العالم، ومن بينها الدول العربية وخاصة المملكة العربية السعودية، بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أن النظام الدولي الحالي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأن نظام القطب الواحد يوشك على الزوال، بينما هناك نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب آخذ في التبلور، ولا بد من سعي الدول العربية إلى حجز مكان لها في النظام الجديد.
من هذا المنطلق كانت مبادرة المملكة العربية السعودية، بإغلاق الملفات المسببة للخلل الذي تعيشه المنطقة العربية، في محاولة للتخفيف من الخلافات الحاصلة إلى حدها الأدنى، وذلك لضمان نجاح القمة العربية في جدة، والإعلان عن انطلاق حقبة جديدة من التعاون والعمل العربي المشترك، مليئة بالتحديات، ويحذونا الأمل بأن تكون إيجابية لناحية تحقيق النمو والازدهار لشعوب الدول العربية.
إذاً، تسلمت السعودية من الجزائر رئاسة القمة العربية في دورتها الـ32، ونستطيع القول إن القمة العربية في مدينة جدة نجحت نجاحاً لافتاً، من خلال مشاركة حشد كبير من الملوك والأمراء والرؤساء العرب، في مشهد لم تعتده منذ عام 2012، تاريخ تعليق عضوية سورية في الجامعة العربية.
مشاركة الجمهورية العربية السورية وبشخص الرئيس بشار الأسد، شكلت الحدث اللافت والأبرز في القمة، خصوصاً أن الإصرار السعودي على مشاركة الرئيس الأسد، دليل واضح على ثبات الموقف السوري، والتسليم العربي بصحة الرؤية الإستراتيجية لدى القيادة السورية، الأمر الذي يمهد لطيّ صفحة الماضي الأليم.
إن كل ما حكي عن وضع شروط مسبقة على سورية، هو كلام مجاف للحقيقة لا يستأهل التعليق، لكونه لا يعدو ذراً للرماد في العيون، أو للتقليل من وهج المشاركة السورية في القمة، ويكفي لتأكيد ما سبق، الاستماع إلى الترحيب اللافت الذي حظي به الرئيس الأسد، بدءاً من رئيس القمة محمد بن سلمان الذي خصّ الرئيس الأسد بترحيب لافت بكلمة الافتتاح، مروراً بكل الزعماء العرب المشاركين في القمة.
تحدث البعض عن إملاءات أميركية دفعت إلى مشاركة الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في القمة العربية، وذلك لحرف الأنظار عن وهج مشاركة الرئيس بشار الأسد وإحراجه، لكن وبموضوعية علينا الإدراك أن القمة تقام على أرض سعودية، وهي التي ترأس القمة ومن حقها توجيه الدعوة لمن تشاء، ودعوة زيلينسكي من اختصاص السيادة السعودية، ورغم كل ما كتب نستطيع القول إن مشاركة زيلينسكي كانت عبارة عن جزرة سعودية، رميت بوجه الأميركي لإظهار توازن الدور السعودي فيما خص الملفات الدولية.
الأضواء المسلطة والاهتمام اللافت في القمة، بقيا من نصيب الرئيس بشار الأسد رغم تشويش زيلينسكي، وللتأكيد على ذلك أجريت بصفتي الشخصية اتصالاً هاتفياً مع مسؤول روسي رفيع المستوى، مستفسراً عن موقف روسيا من مشاركة زيلينسكي في القمة، وكان جواب المسؤول الروسي على النحو التالي:
«روسيا منزعجة من مشاركة زيلينسكي في القمة، لكن السعودية لها الحق في ذلك ونحن نتفهم ذلك»، وأضاف: «ما يهم روسيا هو مشاركة سورية في القمة بشخص الرئيس بشار الأسد، وهذا الحدث هو الأهم بالنسبة لروسيا، لأن حضور الرئيس الأسد شخصياً بعد غياب دامَ 12 عاماً هو تعبير عن انتصار حليفنا الإستراتيجي، وهذا ما عملنا عليه ولم نزل نعمل لتحقيقه».
إن تهافت الأمراء والرؤساء العرب لمصافحة الرئيس الأسد، حدث بحد ذاته، ويحكي انتصار سورية، فالرئيس الأسد وافق على مصافحة الجميع، بمن فيهم أولئك الذين سعوا للإطاحة به وقلب نظام الحكم في سورية وعارضوا عودة سورية إلى الجامعة العربية، نعم الرئيس الأسد صافح، لكن المصافحة لم تأت إلا من خلفية المنتصر الواثق بشعبه الأبي، وبلغة العيون قال لهؤلاء: ها أنا انتصرت على مؤامراتكم الدنيئة الدولية والإقليمية، وبصمودي وبصمود السوريين هزمناكم، أما سورية فلن تهزم.
لا غلو بالقول إن معظم العرب وعلى مدى 12 عاماً، وهو وقت غياب سورية عن القمم العربية، قد أخرجوا أنفسهم من العروبة، وكانوا بلا دور وبلا قضية وبلا هوية وبلا انتماء عربي، ومع عودة سورية للمشاركة في القمة العربية، عادت القضية الفلسطينية كقضية مركزية للعرب، ما يعني أن لا عروبة من دون فلسطين، ولا دور عربياً فاعلاً ولا عروبة حقيقية ولا عمل عربياً مشتركاً إلا بالتنسيق وبمشاركة سورية قلب العروبة النابض.
قلق العدو الإسرائيلي من مشاركة سورية في القمة، واعتبار حضور الرئيس الأسد شكل نكسة لإسرائيل، يفسران أهمية موقع سورية كنقطة ارتكاز جامعة للعرب، وأن سقوط سورية لو حصل، يعني سقوط كل العرب، أما عودة وحضور سورية فيعنيان عودة الرافعة الأساسية والتوازن لكل العرب.
بخمس دقائق فقط استطاع طبيب العيون، الغوص في جسد الأمة العربية، كاشفاً العلل التي تعتري هذا الجسد، محدثاً الفرق في التوصيف، ومحدداً الأخطار التي تهدد مستقبل أجيالنا العربية، واصفاً لها الدواء الناجع عبر رؤية شاملة رسمت الطريق لسلوك درب العمل والتعاون العربي المرجو.
بخمس دقائق ألقى الرئيس بشار الأسد كلمته متجاوزاً المرحلة الأليمة التي ألمّت بسورية، ودخل في صلب العناوين التي تسهم في معالجة الداء الذي ألمّ بالأمة وبسورية العربية، وهذا إن دل على شيء فهو دليل على أهمية الدور العربي المحوري لسورية، وأن هذا الدور هو الضامن الوحيد لتحقيق آمال وتطلعات الشعب العربي، والكفيل بترجمة التعاون والعمل العربي المشترك.
بخمس دقائق قال الرئيس الأسد: لم تعد الأخطار محدقة بل محققة، ويجب علينا البحث عن العناوين الكبرى، التي تهدد مستقبلنا وتنتج أزماتنا، كي لا نغرق ونُغرق الأجيال القادمة بمعالجة النتائج لا الأسباب.
وأضاف: إننا أمام فرصة تاريخية لترتيب شؤوننا بمعزل عن التدخل الخارجي، وتمنى أن تشكل القمة بداية مرحلة جديدة للعمل العربي والتضامن فيما بيننا، لتحقيق السلام في منطقتنا والتنمية والازدهار بدلاً من الحرب والدمار.
وفي جملة غاية في البلاغة ومليئة بالعبر ختم الأسد خطابه قائلاً: سورية حاضرها وماضيها ومستقبلها هو العروبة، لكنها عروبة الانتماء لا عروبة الأحضان، فالأحضان عابرة أما الانتماء فدائم، ويمكن للإنسان أن ينتقل من حضن إلى آخر لكنه لا يغير انتماءه، ومن يغيره فهو من دون انتماء من الأساس، ومن يقع في القلب لا يقبع في حضن، وسورية قلب العروبة وفي قلبها.
سورية بعد القمة العربية ليست كما قبلها، بعدما برهنت أنها صاحبة الشأن والسيادة، وأنها لن تقبع في أي حضن، وأن كل العرب بعد القمة باتوا يقبعون في حضن سورية النابض بالعروبة.