ما بين تمسّك "الثنائي الشيعي"، ممثلاً بـ"حزب الله" و"حركة أمل"، بترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية، وحوار "الثلاثي المسيحي"، ممثلاً بـ"التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" و"الكتائب اللبنانية"، إضافة إلى مجموعات "مستقلة"، الذي يُقال إنّه اقترب أخيرًا وبعد الكثير من الأخذ والردّ، من "التوافق" على مرشح في مواجهة فرنجية، يبدو أنّه الوزير السابق جهاد أزعور، تعيش البلاد حالة قد تطول من "المراوحة".
وسط هذه الأجواء، اختار النائب السابق وليد جنبلاط أن يفجّر "المفاجأة الكبرى" بإعلانه استقالته من رئاسة "الحزب التقدمي الاشتراكي" والدعوة لمؤتمر عام انتخابي الشهر المقبل لاختيار "خليفته"، فتحوّل تلقائيًا إلى "حديث البلد"، وسط تساؤلات حول خلفيّات الخطوة، في التوقيت والشكل قبل المضمون والدلالات، وحول ترجماتها المحتملة في السياسة، في ظلّ الإشاعات التي كثرت في الآونة الأخيرة عن "تباينات" داخل "اللقاء الديمقراطي".
وإذا كان "شبه محسوم" أنّ "استقالة" جنبلاط ستمهّد لوصول نجله النائب تيمور جنبلاط إلى رئاسة الحزب، بعدما "ورث" عن والده مقعده النيابي في الشوف قبل سنوات، ولم يتبقّ له لتكريس "الزعامة" سوى هذا الاستحقاق، فإنّ "المفارقة" أنّ هذا الانتقال "السّلِس" بين الأب ونجله، يأتي في لحظة سياسية "دقيقة" قبل حسم انتخابات الرئاسة، وفي وقت كثر الحديث عن "خلاف في الرؤية" بين وليد وتيمور، وإن حرص الأول على نكرانه.
لكن بمعزل عن الخلفيات والأسباب كما الدلالات، ثمّة علامات استفهام تُطرَح أيضًا عن المفاعيل المرتقبة للخطوة، خصوصًا على المستوى "الرئاسي"، فهل تمهّد مثلاً لتموضع جديد للحزب التقدمي الاشتراكي بعيدًا عن "الوسطية" التي فرضها "البيك"، عندما أعلن التخلّي عن مرشح المعارضة ميشال معوض؟ هل يعود "الاشتراكيون" إلى صفوف المعارضة مع استقالة الأب، ولا سيما في ضوء ما يرشح عن تيمور من "تحفظه" على الكثير من الخيارات؟!.
بالنسبة إلى المعنيّين داخل "الحزب التقدمي الاشتراكي"، فإنّ استقالة جنبلاط حُمّلت أكثر بكثير ممّا تحتمل، خصوصًا أنّها جاءت في سياق مسار طبيعي بدأ منذ العام 2017 حين ألبس الأب نجله الكوفية الفلسطينية، وتكرّس في العام 2018 مع وصول تيمور إلى رئاسة كتلة "اللقاء الديمقراطي"، ما يعني أنّ نقل الزعامة من الأب إلى ابنه، أو ما يسمّيه البعض بـ"التوريث السياسي"، ليس مستجدًا، وإنما حلقة مستمرّة منذ سنوات.
يرفض هؤلاء أيضًا تحليل "التوقيت"، للتعبير عن "ريبة ما"، قد تكون مرتبطة بالاستحقاق الرئاسي أو بغيره، ولا سيما أنّ كلّ ما رُوّج في الآونة الأخيرة عن "خلافات" بين الأب وابنه "إشاعات مغرضة" وفق توصيفهم، ذلك أنّ الاستقالة كانت منتظرة منذ نحو ثلاث سنوات، لكنّها تأجّلت مرّتين، مرّة بسبب ظروف كورونا والحجر الصحي، ومرّة بسبب الانتخابات النيابية، ولم يعد من الوارد تأجيلها لما بعد الانتخابات الرئاسية التي لا يعرف أحد متى تنجَز أصلاً.
بهذا المعنى، ينفي "الاشتراكيون" وجود أيّ أبعاد سياسية للخطوة "الجنبلاطية"، سواء في التوقيت، غير "المريب" برأيهم، خلافًا لرأي بعض "محبّي الإثارة" كما يصفونهم، ولا من حيث المفاعيل، فمثل هذه الاستقالة لا تمهّد لأيّ "انقلاب"، ليس فقط لأنّ جنبلاط لا يحبّذ أن يطلق نجله مسيرته في "الزعامة" بأيّ انقلاب، ولكن أيضًا لأنّه يحرص في كلّ إطلالاته الإعلامية في الآونة الأخيرة على التأكيد على أنّ تيمور هو "صاحب القرار"، باعتبار أنّ "المستقبل له".
يذكّر هؤلاء بما قاله "البيك" مثلاً بعد زيارته لرئيس مجلس النواب نبيه بري قبل فترة، وقد أثار حينها الكثير من الجدل، حين رفض إعلان أيّ اتجاه "رئاسي" قبل "استشارة" تيمور، بوصفه رئيس "اللقاء الديمقراطي"، وهو ما عاد وكرّره بصيَغٍ مختلفة، وقد جاء ذلك ضمن "التمهيد" للتوريث الكامل لتيمور، خلافًا لبعض التحليلات "الدونكيشوتية" التي خرجت عن اشتعال الخلاف بين الأب وابنه، وصولاً لحدّ تهديد الأخير بـ"الاعتكاف"، وربما "الاعتزال".
لكن، إذا كان صحيحًا أنّ "استقالة" جنبلاط تأتي في سياق "بديهي" بدأ منذ العام 2017، ولا بدّ أن يُستكمَل بوصول تيمور إلى المركز الأول في الحزب، فإنّ بعض العارفين يعتبرون أنّ لتوقيتها "رمزيّته الاستثنائية" التي لا يمكن القفز فوقها، خصوصًا أنّ الحديث عن "اختلاف في الرؤى" لا يمكن أن يكون "مجرّد إشاعات"، ولا سيّما أن تيمور يسعى لأخذ الحزب إلى مكان آخر، "يتناغم" مع ما أرسته "ثورة 17 تشرين" من متغيّرات في الفضاء السياسي.
بهذا المعنى، قد تكون استقالة جنبلاط، تمهيدًا لتسليم زمام الأمور بالكامل إلى تيمور، جزءًا من "خطة" إعادة الاعتبار لرئيس "اللقاء الديمقراطي"، الذي لم يكن راضيًا على بعض المسارات الأخيرة، وبدا "ممتعضًا" من اعتبار والده "في الجيب" كما أوحت بعض تصريحات بري وفرنجية، وقد بدأت هذه الخطة بتصريحات الوالد عن "استشارة" ابنه، وإن وضعها البعض في خانة "الهروب إلى الأمام"، ورمي الكرة في "ملعب" تيمور.
لا يعني ما تقدّم أنّ تيمور بوارد تغيير "تموضع" الحزب، بمجرّد وصوله إلى رئاسته، بل لعلّه "ينسجم" مع فكرة الوقوف في منطقة الوسط، بعيدًا عن "الالتحاق" بهذا المعسكر أو ذاك، بما يمنحه امتياز "بيضة القبّان" التي طبعت فترة "عزّ" والده، علمًا أنّ أوساط "الاشتراكي" تذهب لحدّ استبعاد تصويت الحزب لأيّ مرشح "تحدّ" في حال رست الأمور على "مواجهة انتخابية" تحت قبة البرلمان، سواء حصل ذلك تحت "مظلة" وليد أو تيمور.
في النتيجة، قد لا تعني استقالة جنبلاط الأب اعتزالاً كاملاً للسياسة، وانكفاءً تامًا عن الفضاء العام، بعدما كان رئيس تيار "المستقبل" السبّاق إلى هذه الخطوة، فالظروف مختلفة، وكذلك الأسباب والنتائج. لكنّها قد تعني الكثير، في شكلها ومضمونها، وفي توقيتها أيضًا، رغم الالتباس الحاصل، فالرجل الذي "ملّ" اليوميات السياسية الداخلية، يوجّه رسالة لأصدقائه وحلفائه قبل خصومه، قوامها: "الكلمة لتيمور، ونقطة على السطر"!.