رنّ جرس الهاتف. وكان معي صديق صحافي من لبنان، امتهن منذ زمن قريب لغة البكاء والقلق على مستقبل وطنه، بعد تنازعِ وصراع أربعة ملايين ونصف حول اختيار رئيس للجمهورية، ويا لها من مُعضِلة في وطنٍ يدّعي شعبه "أنه عظيم"، ولكنه يفشل عند الإمتحان في اختيار قادة أكفّاء، وبعدها يذهب للبكاء على مشارف دول القرار، علها تجد له حلاًّ او رئيساً صالحاً يُنهض البلاد من أكبر أزمة يمرّ بها في تاريخه.
صديقي ومعه مجموعة من الشباب اللبناني، في الوطن والمهجر، قلقون باكُون على وطنهم، قاطعون الأمل في إيجاد حلّ يُنهي هذا الضياع، فشكّلوا تجمّعاً بدأ على منصّة التواصل الإجتماعي، يهدف الى توحيد قرار الشباب حول رؤية وطنية شاملة، ورئيس صالح لبلدهم... ويا لها من فكرة رائعة.
لكن الثقافة السياسية التي أكتسبوها من قادتهم، جعلت من منصّتهم برنامجاً لمحاولة للتواصل مع زعماء الدول الكبرى والمنظمات الدوليّة، لكي تساعدهم على تنفيذ القرارات الدولية، وتؤمّن لهم رئيساً قوياً يحمي استقلال لبنان وسيادته... بمعنى آخر، ضاع الشباب! ووجدوا في استراتيجية استعطاء السيادة والإستقلال، وشحذ القرارات من الدول المؤثّرة الطريقة الأصحّ والأقرب لبناء وطن.
لا يُلام هؤلاء الشباب على برنامجهم، وهم الذين درسوا في كتب التاريخ أنّه كان للبنان في كل حقبة تاريخية، إدارة ومجموعة غريبة تدبّر شؤونه منذ عام 1840، فمرّة كان العثماني، وأخرى كان الباشا المتصرّف بإدارة الفرنسي والبريطاني، وصولاً وليس آخراً "ربما" السوري، واللائحة لا تنتهي إذا قرأنا تاريخه. اعتاد الجميع، قادة وشعباً على الإتكال على "الفرنجي" كي يُدير شؤونهم، وان مشكلة اختيار رئيس للجمهورية اليوم، ما هي إلا صراعاً سياسياً متكرراً، لم يستطع اللبنانيون فيه ولو مرّة اختيار "رئيس صُنع بقرار لبناني". وكشفت وسائل التواصل عورة تفكير الشباب، الذي يفخر حيناً بتحرير نساء إيران من البرقع، وينتصر لفلاديمير بوتين في الحرب الأوكرانية أحياناً، ويصطفّ الى جانب الصين في مواجهة الإقتصاد الأميركي، أو يشمت بالضربات العسكرية على مدنيين أبرياء في فلسطين المحتلّة. أحداثٌ "لا ناقة للّبناني ولا جمل فيها"، يبكيها وينتصر لها في وقت هو غير قادر على الإتفاق على "رئيس" إلا بعد أخذ رضى نصف دول العالم.
اما المشهد المتكرر المؤسف غير المفهوم، يشاهده المغتربون من اللبنانيين المنتشرين في العالم، عندما يزورهم سياسي لبناني، فيحوم حوله أهل "تبييض الوجّ"، يلتقطون الصّوَر للتبجّح امام الأصدقاء، ويذهبون لشتمه عند مغادرته، كرهاً له وانتقاماً من الذين سرقوا لهم جنى عمرهم في المصارف، حتى علّق أحد المثقّفين في ولاية نيويورك، قائلاً: لو عاد السيد المسيح مرّة أخرى، لما وجد له أنصاراً مثل هذا السياسي". من الواضح أن اللبناني أصيب بحالة ضياع ولا بدّ من "عثماني" جديد، يُذكي، من خلال اضطهاده، الروح الوطنيّة وليس الزعائميّة، كما فعل في القرون الماضية.
في جمهورية المحاصصة، كل فريق له جماعته، وكل مسؤول عسكري له حاضنته، وكل دبلوماسي له مرجعيّته. انهارت الدولة وضاع معها الشعب وجيله الجديد. وتأسَف الأستاذة الجامعية في كندا "فريدا عنبر" على الحالة التي وصل اليها لبنان، خصوصاً عندما تبدأ بالمقارنة في السياسة بين كندا ووطنها. الأولى تعتمد الكفاءة والثانية تعتمد المحسوبية. "الدكتورة عنبر" التي غادرت لبنان من 45 سنة، ما زالت تحتفظ بعاصمتها بيروت القديمة التراثية في ذاكرتها، وقد أصدرت عدّة مؤلفات حولها، ترفض ان تعيش خارج الوطن الجميل الذي رسمته بنفسها لها. وتخجل "عنبر" من الوقائع التي ترويها الصحافة الكندية حول انهيار الدولة اللبنانية، وما تبرح تشرح لزملائها عن قدرة لبنان على النهوض فور إيجاد رئيس كفوء مثقف ونظيف الكفّ.
الصحافي نزار عبود ضرب على الوتر السياسي في حديثه عن تفكير الجيل اللبناني الصاعد، فأراد أن يوصل لهم الحقيقة حتى ولو كانت مرّة، هي ان المجتمع الدولي الذي يناشده شباب لبنان لتحرير أرضه من الفساد، لا يدرج الوضع اللبناني على جدول أعماله في الأمم المتحدة، وان الوطن مهمّ بالنسبة للدول الكبرى، فقط لِكونه حدوده مع إسرائيل، وأضاف "ان الإهتمام الدولي بالبلد هو بقدر اهتمام العالم بأمن إسرائيل". وقال: "ما حدا داير بالو فينا"، ولفت الى ان اهتمام "الأم الحنون" (فرنسا) اليوم ليس سوى طمَعِها بالغاز، تماماً كطمَعِها وعملها في اليمن وشركات نفطه. "وابحثوا في الشبوة وأين صبّ نفطها"!...
وفي مداخلة من زميل صحفي لبناني في واشنطن، لم يلُم م. ك. الشباب اللبناني على طريقة تعاطيهم مع الأزمة اليوم، قائلاً "انه أمر طبيعي عندما تسقط الدولة، تنهار القِيم، فيذهب كل فرد باتجاه طائفته وأصدقائه وزعيمه، "وكل واحد عندو رَبعو"، وما نزال نعيش موروثات الزمن العثماني، بما فيه كل المحسوبيات والرشاوى والإتكال على الغريب... ولهذه الأسباب، وبعد تأسيس الدولة منذ عام 1943، فشلنا في المحافظة عليها. ونقلنا صراعنا الى الجيل الجديد الذي راح يفكر بنفس الطريقة التي يعمل عليها قادة لبنان". وأضاف: "جيل اليوم مختلف تماماً عن جيلنا، نحن اتّكلنا على أنفسنا، عملنا في مختلف المهن الحرة فترة الدراسة، ناضلنا كي نحصل على "خرجيّة لمصروف الجيب، اما جيل اليوم، نراه للأسف يناضل في مقاهي "الأركيلة"، يحصل على ما يريد في أي وقت"... ونصح زميلنا الشباب بالتوجه الى الأرض والتراب، للزراعة ولبناء وطن يكتفي من ذاته، فلا حاجة بعدها للتوجه الى أيه منظمة دولية. كفانا شحادِة!.
المعالجة النفسية العيادية سينتيا باخوس، المختصة في شؤون الشباب، لم تتعجَب من طريقة تعاطي الشباب اللبناني مع الأزمة، فهم غير قادرون إلا على النظر من حولهم. اتخذوا استراتيجية عمل قادتهم وساروا على نفس النهج. وأضافت: "ان الشباب اللبناني بأغلبه إتكالي، وعلى الرغم انه مقموع، فهو لا يحاول ان يخرج حتى اليوم بحلّ جديد ينقله وينقل بلده الى وضع أفضل. أنصحهم بعدم الخوف، وأن يقولوا "لا" عند الحاجة، وألاّ يقلّدوا الموجود اليوم، حتى يصبح لهم الوطن على قياس أحلامهم".
حتى لا تصبح تأشيرة الهجرة حلم في ليلة قدَر، ربما لا بد من أن يتقيّد الشباب اللبناني بالشعب الأرمني ويتّخذ من شبابه مثالاً يُحْتذى به، الذي قام بتغيير نظامه في ثورة أُطلق عليها "الثورة المخمليّة" عام 2018، نسبة لعدم إراقة أيّ قطرة دماء او عنف، فاستطاع خلال 11 يوما فقط، الى جانب الجيش الأرمني، الوصول الى اختيار قائدهم، بعدما كان يتمنى، تماماً كاللبناني، الحصول الى تأشيرة تنقله الى وطن يحميه ليعيش بكرامة.
الأمم المتحدة-نيويورك