كان لافتاً ما حصل في لبنان (ولا يزال) لجهة استقرار سعر صرف الدولار الاميركي في مقابل الليرة اللبنانية، لا بل شهد انخفاضاً بسيطاً في الآونة الاخيرة، ولو انّ الليرة تترنح وتكاد تسقط بالضربة القاضية. 93 الف ومئتي ليرة لبنانية كان الرقم الذي وصل اليه الدولار واعتبره اللبنانيون انه "انخفض"، ومن هنا انطلقت التحاليل والاقاويل والسعي الى ايجاد السبب الحقيقي وراء "ترويض" الدولار.
في الواقع، لا يمكن لاحد ان يعطي السبب الحقيقي لهذا الامر، وكل التكهنات والاقاويل انما تصب في خانة الاجتهادات ليس إلاّ، لانه في العادة، مع الحديث عن طلب الانتربول توقيف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لكان الدولار وصل الى اعتاب الـ150 الف ليرة او تخطى عتبة الـ200 الف، وفي ظل التهديدات الاسرائيليّة والتحذير من تعرّض رئيس مجلس النواب نبيه بري وغيره من السياسيين والمسؤولين لعقوبات اميركيّة، لكنّا شهدنا ايضاً الامر نفسه، اضافة الى سلسلة خلافات سياسية ودبلوماسيّة واجتماعيّة وماليّة... كلّها كانت عوامل قيل أنّها المؤثر الرئيسي لارتفاع سعر صرف الدولار.
على جبهة اخرى، انبرى البعض للقول انّ ترشيح جهاد ازعور الوزير السابق والمدير الحالي لإدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، هو السبب المباشر في هذا التطوّر المفاجئ لسعر صرف الدولار، وان هيبة ازعور وحدها كانت كفيلة باعادة الحسابات وتوفير جوّ من الاستقرار في صعر الصرف، على الرغم من كل المشاكل والتطورات الاخيرة. ولكن، هذا الكلام ايضاً غير دقيق ولا يمكن الركون اليه الا من باب دعم ترشيحه ورفع منسوب التأييد له.
قيل الكثير من الامور حول استقرار سعر الصرف وعلى ألسنة اناس معنيين بالموضوع وغير معنيين: من مقولة "الليرة بألف خير" لصاحبها حاكم مصرف لبنان، الى تأكيد بري من قصر بعبدا بأنّ الدولار سيعود الى 3 آلاف ليرة (حزيران عام 2020)، الى كلام لرئيس "القوات اللبنانية" سمير جعجع قبيل الانتخابات النيابية عن ان تأمين فوز نواب القوّات سيؤدّي الى تراجع سعر الدولار، الى تأكيدات حكوميّة ورئاسيّة ورسميّة بأنّ التنقيب عن الغاز والنفط وترسيم الحدود البحرية واتفاق ايران-السعودية... كلها عوامل ستؤدّي الى انتعاش الليرة، ليتبيّن بعدها انّ هذا الكلام استهلاكي ليس الا.
واذا كان الرهان على محاربة ارتفاع سعر الدولار بهيبة ازعور، فلا داعي للتكهّن بالنتيجة، لأنّها معروفة سلفاً. وفي ظلّ غياب ايّ قدرة على معرفة الاسباب الحقيقية وراء التلاعب بسعر الدولار، يبقى الثابت الوحيد انّ التسوية الّتي لم تنضج بعد، هي الطريق الاكيد لضبط الدولار والاوضاع اللبنانيّة بشكل عام، من سياسيّة وماليّة واقتصاديّة واجتماعيّة... فتستقر في الدرجة الاولى، لتبدأ بعدها مسيرة التحسن البطيء التي قد تستمر سنوات، ولكن أقلّه تكون الضمانة عدم اللعب بأعصاب اللبنانيين كل يوم، فستستقر الاوضاع على السيّء.
ليس بمقدور احد معرفة صحة او عدم صحة ما يقال ايضاً عن عودة قريبة لارتفاع الدولار في مقابل الليرة، لان كل شيء قابل للتصديق في هذا المجال طالما انّه غير مستند الى قواعد واسس علميّة وحسابيّة، وطالما انّ الامور تتعلق ببعض مصاصي الدماء الذين يحلو لهم العيش على عذابات الآخرين.
يجزم الكثيرون ان جلسة 14 حزيران المقبل لانتخاب رئيس للجمهورية، ستلقى المصير نفسه الذي لاقته الجلسات السابقة، وسنعود مجدداً الى الحلقة المفرغة الّتي لن تنكسر الا بقرار دولي لم يحن وقته بعد. وفي غضون ذلك، ستمرّ الايام والفصول بالطريقة نفسها التي عاشها اللبنانيون خلال السنوات الاربع الاخيرة، ليدخل لبنان كتاب "غينيس" كبلد وحيد تمكّن شعبه من ان يكون "فئران مختبرات" نجح في التأقلم مع اصعب الظروف واقساها من دون ان ينتفض او يضع مصلحته كشعب اولاً، بل يعتمد على هيبة هذا الزعيم او ذاك ليواجه كل الصعوبات والتحدّيات، ويستقبل الخسارة تلو الاخرى بابتسامة الزعيم.