غريب هذا البلد لبنان. لم يستطع سياسيوه الاتفاق على بناء دولة، رغم كل المحاولات التي حصلت، على الاقل من بعد اتفاق الطائف ولغاية اليوم. ما هو سرّه؟ كانت تركيبته الديمغرافية موضع فخر للتباهي امام العالم، وصارت مساحة قلق تدفع ابناءها للتفكير بالانفصال او اعتماد نظم سياسية كالفدرالية.
كان هذا البلد الصغير مستشفى العرب، وجامعة الاقليم، وارض السياحة بكل اصنافها وفصولها، ومساحة الثقافة، وجسر عبور بين الغرب والشرق، وسفير العرب الى الكون، لكنه فقد مكانته، فتراجع دوره في زمن تقدّم جيرانه واشقائه الذين حجزوا مواقعهم المتقدمة في كل اتجاه.
يواصل اللبنانيون مراكمة الفشل، في ظل عجز سياسي واضح عن مواكبة دورة الحياة، فتحولت ديمقراطيتهم الى مصدر ازماتهم بسبب نظامهم السياسي القائم على التوافقية بين المكونات. وعندما غاب الاتفاق، حلّت الرعاية العربية والدولية، لتدفع اللبنانيين الى فرض توافقهم، سواء في ظل الوجود السوري او ما بعده: من مؤتمر الدوحة الى جهود وادوار ومؤتمرات الفرنسيين. لم تبق عاصمة تهتم بلبنان حالياً لا غرباً ولا شرقاً، لا اجانب ولا عرب، سوى باريس التي تنشط بين الحين والاخر لعدة اسباب:
اولاً، تأكيد نفوذها ورعايتها التاريخية وحمايتها للتنوّع اللبناني.
ثانياً، تأمين مصالحها في شرق المتوسط انطلاقاً من لبنان.
ثالثاً، ملف الغاز والنفط عبر شركة "توتال".
فهل يُحبط اللبنانيون الادوار الفرنسية؟
كان المسيحيون يعتبرون ان فرنسا "الأم الحنون". هي كانت تاريخياً الأم في فتح ورعاية المجالات الثقافية والتربوية والاقتصادية في لبنان. وقتها كان اتقان اللغة الفرنسية مدخلاً للبنانيين نحو عالم ثقافي دولي متنوّر ومتمدن. ولا تزال الاجيال تتوارث هذا البعد اللغوي الثقافي الحضاري، رغم اكتساح اللغة الانكليزية عالم الثقافة والتكنولوجيا والحداثة والتواصل في العالم.
لعب الفرنسيون الدور الرئيسي في دعم لبنان إقتصادياً في العقود الماضية، منذ اعداد المؤتمرات والطلب من الاصدقاء تقديم المساعدات والهبات والقروض للبنان: مؤتمرات باريس وسيدر.
لم يتفرج الفرنسيون على ازمات لبنان السياسية، خصوصا في الاونة الاخيرة، حيث تم عقد جلسات: مؤتمر "سان كلو" الجامع، ولقاءات باريس بالمفرق، واتصالات الاليزيه مع القادة اللبنانيين، وجولات رؤساء فرنسا منذ عهد الرئيس الراحل جاك شيراك، الى كل الرؤساء الفرنسيين الذين حلّوا بعده، وصولا الى عهد الرئيس الحالي ايمانويل ماكرون.
مما يعني ان باريس معنية بإستقرار وسلام لبنان، وهو ما دفع الاليزيه الى ممارسة سياسة الواقعية اللبنانية: دفع القوى اللبنانية نحو التوافق عبر الحوار، وتسويق مبادرة رئاسية لا تزال قائمة.
فما هي اسبابها؟
يروي احد العارفين ان الرئيس الفرنسي استمع الى استفسار احد المسؤولين اللبنانيين في لقاء جمعهما في باريس في الاسابيع الماضية: لماذا تريدون عدم مراعاة الاكثرية المسيحية في شأن رئاسة الجمهورية؟ واين مصلحة المسيحيين في كسرهم حالياً؟
فأجابه ماكرون: تنظرون الى مصلحة المسيحيين في لبنان فقط الان، وانظر اليها كي تبقى الى ما بعد مئة عام.
كان هذا الجواب كفيلاً بفهم ابعاد فرنسا في التعاطي مع الواقع اللبناني في ظل الظروف الاقليمية والدولية، وسط ديمغرافيات وموازين جديدة. وهنا تنطلق باريس من نظرية القوى الوازنة التي تضمن الامن والاستقرار والوجود المسيحي في الاقليم، وليس فقط في لبنان. لذا، فإن الرأي الفرنسي لا يزال مبنّياً على واقعية سياسية: لن تتغير مبادرة باريس، لكن التعديل الجزئي امر محتمل في البراغماتية السياسية.
في الاقتصاد، يخطو الفرنسيون قُدماً، وبشكل اساسي في تنفيذ شركة "توتال" لمشاريع استثمارات حقول الغاز في مياه لبنان بدءاً من الجنوب، وستبدأ عمليات التنقيب في شهر ايلول المقبل: انهت "توتال" توقيع عقود الخدمات لزوم عمليات التنقيب، بعد اجراء مناقصات شفّافة جدّاً، ففازت شركات اوروبية، واميركية، ولبنانية ايضا. واللافت هنا ان الشركة اللبنانية هي شركة البساتنة التي التزمت نتيجة تلك المناقصات عملية نقل الفيول الى البواخر والحفّارات. مما يعني ان الشركة اللبنانية التي سبق وتلقّت سهاماً في المرحلة الماضية، بعضها سياسي، منذ عهد "سوناطراك" الجزائرية، فازت بعقود "توتال" الفرنسية نتيجة مناقصة، مما اجهض كل تصويب على الشركة اللبنانية، واعطاها براءة ذمة دولية، واكد ان الفرنسيين دخلوا فعلاً مسار التنفيذ العملي في ملف الغاز اللبناني، من باب المصلحة الاقتصادية لكلا الطرفين، على قاعدة ان الخلافات السياسية لا يجوز ان تؤخّر استثمار لبنان لثرواته الطبيعية.
لم يعد ممكناً تأجيل الخطوة، ليدخل لبنان الآن عمليات التنقيب عن ثرواته الطبيعية، في ظل عجز سياسي عن انتاج اي حل يتعلق برئاسة الجمهورية او باقي مناصب الدولة ومؤسساتها.