الزيارة الثانية للمبعوث الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان لم تكن مثل الاولى ان من حيث الشكل او من حيث المضمون. فمن حيث الشكل، كانت الزيارة الاولى مجرد ايحاء بأن فرنسا مصممة على عدم خسارة الورقة اللبنانية، وانها على استعداد للحديث مع الدول الكبرى في سبيل ايجاد حلّ للموضوع، ومن حيث المضمون اتت اللقاءات التي عقدها لودريان في حينه، بمثابة رسالة انفتاح على الجميع وللتشديد على ان لا "فيتو" على احد على الرغم من التأييد الفرنسي الذي كان قد صبّ في خانة رئيس تيار المردة سليمان فرنجية. اما الزيارة الثانية، فأتت مختلفة من حيث الشكل لانها تمّت مباشرة بعد اجتماع خماسي جديد وبروح جديدة انجبتها السياسات الخارجية التي تحكّمت بالقرارات الداخليّة وامّنت التوازن السياسي الصعب بين مختلف الاطراف، فساد "التعادل" بشكل رسمي واثبت كل طرف حضوره وفاعليته، فيما عادت الحرارة الى العلاقة بين التيار الوطني الحر وحزب الله اثر التوتر الذي ساد والذي لم يقطع الخيوط الا انه اضعفها.
اما من حيث المضمون، فكانت الزيارة لتمرير الوقت اولاً وللتأكيد على الاصرار على الحوار الذي لا مفرّ منه، والذي بات اكثر قبولاً بفعل التطورات المتسارعة التي شهدتها المنطقة ولبنان بشكل خاص، واللافت ان هذا الامر تحديداً اعطى نفحة ايجابية لرئيس مجلس النواب نبيه بري الذي زاره لودريان مرتين (وقد ميّزه عن غيره من المسؤولين في هذا الصدد)، كما انها شهدت نقلة لافتة وبالغة الاهمّية تمثلت بزيارة لودريان (بصفته الممثل الشخصي للرئيس الفرنسي الحالي)، مقر كتلة "الوفاء للمقاومة" حيث عقد اللقاء مع النائب محمد رعد. هذه الخطوة حملت دلالات لا يمكن تجاهلها، اوّلها الاعتراف بالحزب بشكل علني بأنّه طرف سياسي لبناني، ولم يعد من الجائز التعاطي معه (اوروبياً على الاقل) على انه حزب ارهابي، والثاني هو الاعتراف بدوره في أيّ حلّ يتم العمل عليه، وهذا مكسب كبير للحزب.
ومن حيث المضمون ايضاً، يبدو أنّ فرنسا واللجنة الخماسيّة بشكل عام، مصرّتان على تأمين ظروف النجاح لهذه المبادرة، مخافة ان تخسر باريس الورقة اللبنانيّة في ظلّ التغييرات الكبيرة التي تعيشها المنطقة، لذلك كان "تهويل" لودريان بقوله ان دول اللجنة الخماسية قد تسحب يدها من لبنان اذا فشلت مساعيه، وهذا ان دلّ على شيء، فعلى مدى الاصرار الذي تملكه فرنسا لايجاد حلّ للمشكلة اللبنانيّة يمكّنها من المحافظة على نفوذها فيه. ولعل هذا ما دفع بري الى التفاؤل والحديث عن "كوّة فتحت في الجدار الرئاسي"، اضافة الى اعتباره انه نجح في الحصول على اعتراف بأنّه كان محقاً حين دعا الى الحوار (ولو ان الكثيرين يعتبرون انه لم يكن محقاً لانّه كان سيرأسه، وهو ما لن يحصل في الفترة المقبلة)، وان الاصرار على الحوار كسبيل وحيد للوصول الى الحل، معناه ان الدول الكبرى قد وصلت الى ارضيّة مشتركة ستنطلق منها لايجاد الحلّ المناسب، والا لما كان الحديث عن عودة لودريان في ايلول المقبل (ما يعني فعلياً ان كل الحلول والاستحقاقات ستُرحّل بالطرق المناسبة حتى هذا الشهر) حيث قد تكون "الثالثة ثابتة" فيحمل معه سيناريو الحلّ الذي قد لا يطول كثيراً وفق ما يتردد، ايّ قد يكون اقرب بقليل او هدية عيد الميلاد المجيد، وكما هو معلوم، ضمن رزمة متكاملة سيتم بحثها تحت عنوان "رئاسة الجمهوريّة" فيما التفاصيل ستكون حول الحكومة ورئيسها والخطوات السريعة اللاحقة.
هذا يعني انّ الجديد الذي حمله لودريان هو تأكيد على عقد حوار وعلى انه يحظى بموافقة دوليّة لتظليله، فيما تبقى للتفاصيل رهبتها، مع توقع حصول تقارب اكبر بين الدول الاساسية المعنية خلال شهر آب المقبل، من شأنه ان ينعكس ايجاباً على الملف اللبناني ويليّن المواقف الداخلية، مع احتمال ان ينجح النائب جبران باسيل في ان يأخذ الدور الذي لطالما لعبه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط: "بيضة قبان".