تتنافس الأحزاب على جذب الشبيبة في لبنان، وهم يشكلون الخزان البشري النابض بالحياة بالنسبة إليها... وكذلك الأفعل في النزول إلى الشارع، بطبيعة الحال!. بيد أن ثمة ما هو أخطر من إشعال الإطارات المطاطية، خلال التظاهرات، على صحة الإنسان السلوكية، وعنَيْت به الخطر التربوي!.
فالوضع العام في مكان التّظاهر مثلا، لا يُشكل بيئة سليمة للشبيبة، فهم غير مُهيئين بعد للتفاعل بمسؤولية مع نبض الشارع الاحتجاجي. كما وأن التفكير النقدي في غير متناولهم. وتاليا فالمسؤولية في هذه الحال، إنما تفع على المؤسسات التربوية والمدارس، وكذلك على الأهلين!.
ومن هنا الحاجة إلى الوَعي الشبابي، كي يكون تفاعلهم أكثر وتأثيرهم أفعل!.
ولسنا هُنا في وارد الحُكم على تصرف الآخرين، فلَهُم حريتهم الشخصية ووسائل تعبيرهم... بيد أن من المسؤوليات المُلقاة على عاتق الأهل، وجوب التنبه إلى أُمور ينبغي عدم تعريض الأَولاد لها.
وهي إلى ذلك، تُحدث حالة من التناقض الرهيب بين ما يتعلمه الشبيبة أكاديميا، وما يرونه أَو يسمعونه في الواقع، ما يخدش تاليا سُلم القيم التي نشأوا عليها.
وحتى الأطفال، قد يعمد بعض الأهلين، إلى تلقينهم "الشتائم"، من وحي الموضوع الاحتجاجي، كي يصبح أبناؤهم نجوما تلفزيونيين ثورويين، ولو في مجالات السفاهة!.
وهكذا، يردد الطفل ما تلقنه، مظهرا "شطارته" أمام أبيه كما وأَمام الجمهور العريض، فينشرح بالتالي صدر الوالد فخرا واعتزازا، ولا يدرك أحد خطورة المس بسُلم القيم أَو بأحد مُندرجاته!.
وكما يترك احتراق الإطارات المطاطية، انبعاثاته السامة، وتسبب الغازات الناتجة عن ذلك، نوعا من التهيج للقنوات التنفسية لدى الأشخاص إذا استنشقوا الغازات المنبعثة... كما وتسبب أيضا تهيجا للشُعب والقصبات الهوائية للمُعانين من الحساسية أو الربو... كذلك فللكلمات سوادها، وانبعاثاتها السامة، وتلوثها السمعي والفكري!...
وهذا ما يضج به –وللأسف– السواد الأعظم من قنوات التلفزة في لبنان!. ومجددا: نحن في حاجة إلى الوَعي!.
دور الأحزاب
وأما دور الأحزاب عندنا، فلا يشمل تحصين المحازبين من الشبيبة، من الخطاب "غير اللائق"، ولا حضهم على احترام الكبير والصغير، على حد سواء، ولا تجنيبهم سياسة "غير مقرونة" بخلق سليم، وبقيم ثابتة محددة، يُفترض في الشبيبة أن يعيشوها في مجتمعهم!. فللأسف، إِن سُلم القيم، في غيبوبة كاملة في التنشئة الحزبية في لبنان!.
وإِذا كانت الغازات السامة الناتجة عن حرق الإطارات لا تتبخر في الهواء في سهولة، بل تتجمع في مُستويات مُحددة من الغلاف الجوي، ويستنشقها الناس، وبالتالي تؤثر في الجميع من الرضيع إلى الطاعن في السن... كذلك سموم الكلام لا تنمحي من الذاكرة، ويُعتاد عليها، ولا تُلحَظ مساوئها، بل تتجمع تلك الشتائم في الذاكرة، ومن السهولة استحضارها، كما واستخدامها، في مُناسبة وفي غير مُناسبة، وفي حق أي كان!. وهنا، لبلوغ الوَعي، يحتاج مجتمعنا إلى عيش القيم!.
إختلافات جيلية
بين جيلنا وجيل اليوم، بَوْن شاسع... وأما الجامع، فالحرب اللبنانية، التي امتدت أغصانها لتظلل أجيالا وأجيالا!...
أذكر وأنا فتى، كيف كنا نتوجه إلى المدرسة، كلما سمح الوضع الأمني بذلك. وأما حين تسوء الحال خلال النهار، ويشتد القصف الصاروخي، وتطلق القذائف في كل اتجاه، فكنا في مدرسة الفرير – القلبين الأقدسين في الجميزة، نقصد الطبقة السفلى، وضمنا نفقا تحت الأَرض، يصل المدرسة الصغرى بالكبرى، على امتداد الطَّريق العام الفاصل بين المبنيين، إِلى أن يهدأ القصف. وإذاك يأتي ذوونا لاصطحابنا إِلى المنزل. ولم أذكر أن كان لي يوما اهتمام حزبي. لقد كانت الأولوية عندي التحصيل العلمي... ولا شيء غير ذلك!. وكان شأني في ذلك، شأن السواد الأعظم من المتعلمين!.
وأما مَن كان يكبرنا زمنيا في تلك الفترة، مِن المنتسبين إلى الأحزاب، فلم يكن يوما، في حرم المدرسة، غير متعلم ملتزم... بقوانين مدرسته وبتوجيهات معلميه!.
إن جيل اليوم الملتزم حزبيا، يُصنف نفسه في المؤسسة التربوية المنتمي إليها "ضابطا"، ويحسب أن كل الباقين في المؤسسة، إنما هم برتبة "جندي أول"!.
وبذلك يكون محور الاختلافات بين الجيلين، قائما على خطين اثنين: إرتفاع منسوب الوَعي لدى جيل الأمس، وكذلك تطبيق مندرجات سلم القيم الاجتماعية.
لقد كنا في "عز" الحرب الأهلية نتعلم، وفي ظل حكم الميليشيات نتعلم، وفي كنف الفساد نتعلم... وهذه المزية الإيجابية تُسجل هذه المرة في خانة الأحزاب العقائدية التقليدية (1975 – 1990).
وأما جيل "الثورة"... و"الحراك المدني"... والزعامات "التغييرية"... فلقد باتت لها رزنامتها، وفي ضوئها تسمح أو لا تسمح بفتح المدارس!.
وهي كانت في الـ 2019 وحتى الأمس القريب، ترسل المتعلمين لإقفال الطرق، وحرق الإطارات، من دون أن تنمي في نفكيرهم وفي مقارتبهم للأمور شيئا من الوَعي!.
ومن ثم، لماذا يكون عهد الميليشيات بين 1975 و1990، أرحب صدرا، وأرفق على المتعلمين، من الحراك الشعبي في الـ 2019؟.
قد يكون السوال اليوم، في غير زمانه... ولكننا نطرحه من باب أن الحلول الناجعة لأي معضلة، إنما تبدأ بالتشخيص السليم للعلة. وأما العلة الآن، فهي في عدم تمكن جيل اليوم – بالعموم – من اكتساب مهارات ذات صلة بالوعي لحل معضلات تواجهه شخصيا أم تواجه الوطن بأسره...
فبالوَعي نُواجه الفساد... كما ونواجه كل عيوب المجتمع وعلله!...
وفي المقابل، من حق أبنائنا علينا أَن نعلمهم، ونحسن حل مشاكلنا السياسية والاجتماعية من دون إقحامهم فيها، وأن نكفر نحن عن ذنوبنا، التي اقترفناها بمعرفة وبغير معرفة، حين أوصلنا بعض اللصوص إلى المجلس النيابي، وحين لم نسائل ممثلينا في البرلمان، حين تنبغي المساءلة... ولم نجرؤ حتى على القول لهم: "يا محلا الكحل في عيونكم"...