"انتفض" عدد من النواب اللبنانيين، اضافة الى عدد آخر من السياسيين والمسؤولين الرسميين والحزبيين على الرسالة التي ارسلها المبعوث الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان الى البرلمانيين وطلب فيها ان يضعوا خطياً مواصفاتهم لرئيس الجمهورية العتيد، واجابته قبل نهاية شهر آب الحالي.
ماذا تعني هذه الانتفاضة فعلياً؟ للوهلة الاولى، يعتبر المرء ان "النخوة" و"الروح السيادية" عادت الى المعنيين بادارة شؤون البلاد، وقرروا وضع حد لكل التدخلات الخارجية من اي جهة اتت، وقرروا اعادة زمام الادارة الى اللبنانيين فقط وحصراً. ولكن، للاسف يظهر ان الوضع لا يطابق هذا التصور والمفهوم، لان هذه "الانتفاضة" منقوصة، وتعني ان التفاهم الخارجي لا يزال بعيداً وبالتالي تبقى "العطلة الصيفيّة" لاتخاذ القرارات سارية حتى اشعار آخر، ويمكن للاعبين المحليين التصرف كما يحلو لهم طوال هذه الفترة، وهذا ان دل على شيء، فعلى ان التوافق على رئيس جديد للجمهورية ليس بمتناول اليد بعد، وبالتالي فإن ما يحكى عن انفراج قريب يضعه المراقبون والمتابعون في خانة "بث الروح الايجابية" فقط لا غير.
الملاحظة الثانية التي يمكن استنتاجها، هي انّ الشعارات التي ترفع عن السيادة فارغة ولا تنطلي على احد، فالمسؤول الفرنسي لم يرسل الرسالة من تلقاء نفسه ولم تأتِ "ابنة ساعتها" كما يقال، بل كانت حصيلة اشادة وترحيب من جميع المسؤولين والحزبيين من دون استثناء بالتدخل الفرنسي للمساعدة على انتخاب رئيس وحل الازمة اللبنانية، وحين التقى لودريان على مرحلتين مختلف المعنيين، هل بحث معهم في اوضاعهم المعيشية ام في المسألة اللبنانية؟ فلماذا لم تكن السيادة منتهكة في ذلك الوقت؟.
اما الملاحظة الثالثة فتكمن في ان المبعوث الرئاسي الفرنسي التقط "اللعبة اللبنانية"، لذلك طلب الى من وجه اليهم الرسائل ان يكون الجواب خطياً وفي مهلة محددة، لعلمه ان هؤلاء انفسهم قد يقولون شيئاً في الصباح وينفونه في المساء، كما انهم يتقنون فنّ المماطلة الى ابعد الحدود، وقد يأتي الجواب بعد فترة طويلة او لا يأتي اطلاقاً. وبما ان لودريان يمثل شخصياً الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وبما انه "محنك" في السياسة الخارجية ومتطلباتها، التجأ الى حماية نفسه ومن يمثله، عبر هذا الطلب لان الوقوع في وحول المماطلة وتغيير المواقف يسيء الى صورته وصورة فرنسا بشكل عام.
شعر النواب بالاحراج من الطلب الفرنسي، كونه يضعهم امام مسؤوليات لا يمكنهم التهرب منها، لذلك كانت ردّة فعل بعضهم "كبيرة" واحتموا بالسيادة اللبنانية لتبرير عدم الزامهم بما يجب عليهم فعله، ليس تجاه الفرنسيين، انما تجاه اللبنانيين، غير انّ المبادرة الفرنسية حازت، كما سبق واشرنا، بموافقة واشادة من الجميع، لتتحول بسحر ساحر من المساعدة الى التدخل السافر في الشؤون اللبنانيةّ! وكل هذه المواقف تصبّ في خانة الضبابية الدوليّة تجاه لبنان وعدم الاستقرار، وتكاد فترة ولاية الرئيس الاميركي جو بايدن تنتهي من دون ان تحصل اي مؤشرات ايجابية حيال المسألة اللبنانية، وكأنّ هذا البلد يتعرض للعقاب الخارجي، بينما جلادوه هم انفسهم من شجع ابناءه على الاستمرار في الوقوع في الخطيئة مراراً وتكراراً، فيما السيادة اللبنانية كانت منتهكة عربياً ودولياً منذ عقود من الزمن، بصك براءة لبناني.
ليست المسألة انتفاضة للكرامة، بقدر ما هي حماية للمعنيين ممّا يمكن ان يدينهم، فلو اغفلت الرسالة ان يكون الجواب خطياً وضمن مهلة محددة، لكانت محطّ ترحيب وشكر على الاهتمام الفرنسي بلبنان، فخطيئة لودريان انه "زرك" النواب، فكان هذا الردّ علّه يرتدع ويفكر جدياً في المرة المقبلة التي يرغب فيها وضع النواب امام مسؤولياتهم، فيما يبقى السؤال عن جدوى اللجوء الى الحوار في ظلّ هذه الاجواء.