منذ غادر الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان بيروت قبل أسابيع، ضاربًا شهر أيلول موعدًا لا لزيارته "الثالثة"، وربما "الثابتة" فحسب، ولكن لـ"اجتماع عمل"، بدا "اسمًا حركيًا" للحوار الموعود الذي طال انتظاره، حتى تصاعدت "الرهانات" على "خرق" سيحمله وزير الخارجية الفرنسي الأسبق معه، وسط معطيات تفيد بأنّ خطواته تشكّل "مسارًا موازيًا" للحوار المفتوح أساسًا بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر"، والذي قيل إنّه يحقّق تقدّمًا لافتًا.

لكن بين موعدي مغادرته وعودته المرتقبة، طرأت متغيّرات عدّة لتقلّل من هذه الرهانات، بل ربما تطيح بها، لعلّ أهمّها حادثة الكحالة الشهيرة، التي يصحّ الحديث عمّا قبلها وما بعدها، ليس لخطورتها الأمنية، ولو تقول المعطيات إنّها كادت تأخذ البلاد إلى الفوضى والمجهول، ولكن لمستوى التصعيد الذي كرّسته في السياسة، مع رفع قوى سياسية لواء المواجهة مع "حزب الله" بنتيجتها، وصولاً لرفض الجلوس معه على طاولة واحدة، كما كان الوسيط الفرنسي يطمح.

وفيما كانت هذه القوى، المحسوبة بشكل أساسيّ على معسكر المعارضة، تستعدّ لإعلان موقفها هذا، مع معادلة "لا حوار قبل انتخاب الرئيس"، بعد "تردّد" استمرّ منذ لقائها لودريان في بيروت، حتى جاءت "الرسالة" التي وجّهها الموفد الرئاسي الفرنسي إلى مجموعة من النواب، بينهم رؤساء الكتل وعدد من المستقلّين، لتثير "نقزة مضاعفة"، ولا سيما مع عناصر "الاستفزاز" التي حملتها الرسالة في الشكل، ولا سيما أنها بدت بمثابة "امتحان مدرسي".

وسط كلّ هذه المعطيات، تُطرَح في الأوساط السياسية تساؤلات بالجملة عن مصير "حوار أيلول" الذي شكّل لأسابيع "فسحة الأمل" شبه الوحيدة لكثيرين للخروج من "النفق"، فهل انتهى هذا الحوار قبل أن يبدأ وأضحى في خبر كان؟ وهل يتحمّل لودريان نفسه المسؤولية عن ذلك بعد رسالته المثيرة للجدل؟ ماذا عن المعارضة التي ترفع السقف لحدّ رفض الحوار مع شريك تدرك أنّ لا قدرة لها على انتخاب رئيس من دونه؟ هل من بديل تطرحه وسط ذلك؟!.

في المبدأ، يقول العارفون إنّ "رسالة لودريان" إلى النواب شكّلت ما يمكن وصفه بـ"خطوة ناقصة" في العرف الدبلوماسي والسياسي، لأنّها فاقمت الأمور بدل تيسيرها، قبل حوار لم يكن ثمّة إجماع أصلاً على المشاركة فيه، بمعزل عن "النوايا" الكامنة وراءها، وبغضّ النظر عن تفاوت المواقف منها، مع "إيجابية" أبداها البعض، ولا سيما أولئك المحسوبين على "حزب الله"، إضافة إلى "التيار الوطني الحر"، علمًا أنّ بين هؤلاء أيضًا من خرج لينتقد "الأسلوب".

يقول المنتقدون إنّ الرسالة شكّلت "سابقة" في العلاقات بين الدول، إذ لم يسبق أن وجّه "وسيط" رسالة لنواب مُنتخَبين، أشبه بـ"الفرض المدرسي"، يطلب فيها منهم إجابات "خطية" على أسئلة، بل يمنهم "مهلة" أو "deadline"، وفق العرف المدرسي، لإنجاز المطلوب منهم، علمًا أنّ ما أثار "نقزة" النواب أكثر أنّ الأسئلة المطروحة "عامة"، وسبق أن طرحها لودريان شفهيًا على النواب، وحصل على الإجابات المطلوبة حولها بالتفصيل.

في المقابل، ثمّة من يقلّل من شأن هذه "النقزة"، باعتبار أنّ "نوايا" لودريان من الرسالة "صافية"، وأنّ كلّ ما أراده لم يكن سوى "تثبيت" ما يتوخّاه النواب من الرئيس المقبل بشكل خطّي، وذلك للوصول إلى قواسم مشتركة، بات مدركًا أنها أكبر بكثير من الاختلافات التي يتمّ التركيز عليها في الإعلام، وبالتالي فإنّ الهدف هو التأكيد على "التقارب"، ما يمهّد الطريق للانتقال إلى الخطوة التالية، عبر إقران المواصفات المتفق عليها بالأسماء المناسبة.

وفيما ذهب البعض في قوى المعارضة ليرسم علامات استفهام حول الدور الفرنسي ككلّ، مستعيدًا اتهامات وُجّهت لباريس بـ"محاباة" مرشح محدّد، ومشكّكًا بتمثيل فرنسا للمجموعة الخماسية التي سبق أن حدّدت في اجتماع الدوحة مواصفات الرئيس العتيد، أي أنّها أجابت سلفًا على أسئلة لودريان، يقول العارفون إنّ الفرنسيّين لن يوقفوا مساعيهم بنتيجة الجدل الدائر، بل إنّ لودريان سيواصل مهمّته، وهو يبحث عن طريقة لـ"استقطاب" المعترضين.

عمومًا، وبمُعزَلٍ عن "الملاحظات" التي تسجَّل ربما على أداء الفرنسيّين، منذ ما قبل تعيين لودريان موفدًا خاصًا للرئيس إيمانويل ماكرون إلى لبنان، يبقى الثابت أنّ المشكلة "أعمق" من رسالة "مستفزّة" في الشكل، وقد عبّر عنها بشكل أو بآخر بيان قوى المعارضة الذي يقول المطّلعون إنّه أعِدّ قبل وصول الرسالة أصلاً، ومفاده أنّ الحوار مع "حزب الله" مرفوض، وهو ما اعتبر كثيرون أنّه "يفرغ" مهمة لودريان من مضمونها.

يشير هؤلاء إلى أنّ المشكلة ترتبط بـ"ريبة" تزداد لدى قوى المعارضة من المسار الذي يسلكه انتخاب رئيس الجمهورية، علمًا أنّ حادثة الكحالة الأخيرة جاءت لتُخرِج هذا الفريق، بمختلف مكوّناته، من "ورطة" التباين في مقاربة الحوار، بعدما كان جزء منه يميل إلى "التجاوب" مع مبادرة لودريان بوصفها "الفرصة الأخيرة"، ليعيد "كوع الكحالة" رسم خريطة الطريق والأولويات، ولا سيما مع إحيائه السجال حول "حزب الله" وسلاحه.

يقول البعض إنّ "ريبة" المعارضة موصولة أيضًا إلى الحوار بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر"، وهو حوارٌ تتوجّس منه الكثير من القوى، ولا سيما "القوات" و"الكتائب"، ولو جاهرت بالعكس، باعتبار أنّها تدرك أنّ أيّ تفاهم بين "الحزب" و"التيار" قد يستطيع إيصال رئيس لا ترضى هي عنه، بلعبة "الديمقراطية" التي تدافع عنها، بل إنّها تخشى أن يصدّق الوزير السابق جبران باسيل في النهاية على مرشح "حزب الله"، ما يضعها في موقع "لا تُحسَد عليه".

ترفض أوساط المعارضة وضعها في "قفص الاتهام"، عبر سؤالها عن "البديل" طالما أنّها ترفض الحوار، لأنّ "البديل" من وجهة نظره هو الالتزام بنصوص الدستور ومقتضياته، والدستور أكثر من واضح في هذا السياق، فهو ينصّ صراحة على آلية انتخاب الرئيس، وبالتالي فالمطلوب من أيّ "وسيط" نزيه وحيادي أن "يقنع" المخالفين بالتقيّد بالديمقراطية، لا "جرّ" الآخرين إلى تبنّي "البِدَع" التي يسعى لتكريسها، والحوار من ضمنها.

صحيح أنّ أسبوعين لا يزالان يفصلان عن بدء شهر أيلول، وأنّ الأمل يبقى قائمًا بقدرة الوسيط الفرنسي، بدعم "الشركاء" في المجموعة الخماسية، على إحداث "الخرق"، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ المطلوب مقاربة مختلفة للأزمة، لأنّ الرهان على مجرّد الجلوس على طاولة واحدة قد لا يكون كافيًا، في ظلّ انقسام تزيد "عموديّته" يومًا بعد يوم، ويُخشى أن يأخذ أشكالاً أكثر عنفًا، قد لا تكون حادثة الكحالة سوى "عيّنة" بسيطة عنها!.