لم تكن دعوة رئيس المجلس النيابي نبيه برّي وليدة صدفة، ولا هي رغبة رئيس السلطة التشريعية بإجراء استعراض سياسي. من يستحضر تاريخ برّي يعرف ان الرجل لم ينفك ابداً عن الدعوة الى وفاق وطني، عبر الحوار، من اجل حل الازمات التي تعصف بلبنان.
لا يمكن حصر محطاته الحوارية بطاولة جمع عليها قيادات البلد عام 2006، وما بعده، ولا بلقاءات ثنائية عقدها في عين التينة لوأد الفتنة السنّية-الشيعية التي اطلّت مشاريعها في السنوات الماضية، بل يمكن الاستناد الى خطاب برّي القائم مضمونه اساساً على الدعوة الى الحوار والتقارب والوفاق، على مستويين: داخلي واقليمي.
الغريب أنّ القوى التي تعارض طرح رئيس المجلس، او التي عبّرت عن رفض دعوته للحوار، هي نفسها التي كانت تنتقد "ابتعاد بري عن لعب دوره كوسيط بين القوى السياسية". فما هي بدائل هؤلاء؟ هناك من يرى بجلسات انتخاب رئيس الجمهورية بأنها الحل، لا الحوار. جرّبت الكتل النيابية طويلاً، حصلت ١٢ جلسة انتخاب، فماذا انتجت؟ كانت جلسة ١٤ حزيران الماضي هي المقياس، فلم تستطع التكتلات ان تفرض رئيساً، وهي تعرف الآن ان عقد جلسات اضافية من دون اتفاق يكسر حدّة اصطفافين لن يُثمر انتخاباً لرئيس الجمهورية. اذاً، على ماذا الرهان من دون توافق يصنعه الحوار؟.
تنطلق اهمية دعوة بري انها محدّدة زمانياً بأسبوع حواري، يليه جلسات متتالية للمجلس النيابي لإنتخاب الرئيس.
عملياً نجح رئيس المجلس مرةّ جديدة "بضربة استاذ"، عبر طرح وطني يحشر كل الكتل النيابية وخلفها القوى السياسية: هل تريدون انتخاب رئيس؟ تفضلوا لحوار غير مفتوح تتبعه جلسات مفتوحة حتى تحقيق الهدف بإنتخاب رئيس للجمهورية.
ان الرفض السياسي لدعوة بري، يمكن تصنيفه في خانة مشاكسة التلاقي الوطني، وبالتالي منع ايجاد ارضية لحل الازمات بدءاً من عملية انتخاب رئيس الجمهورية.
لم يعد مقبولاً اعتماد سياسات الرفض، الذي يبدو انه من اجل الرفض لا غير، بغياب البدائل المنتجة.
لا يبدو ان خطوة بري اتية من فراغ. لا بل ان كل المؤشرات المؤثرة في لبنان من الداخل والخارج، تدفع من اجل سلوك الحوار الداخلي:
-يستمر التواصل الاميركي- الايراني، خطوة بعد خطوة، من اجل توسيع مساحات الاتفاق، وصولا الى بت محتمل للملف النووي، مما يقلل من فرص الصدامات.
-تدرك كل من المملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية الايرانية ان الحوار بينهما سينتج تفاهمات متدرجة، ظهرت بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وستتكثّف المساعي التي تتوّجها زيارة مرتقبة للرئيس الايراني الى الرياض.
-يسعى الاميركيون الى بت اشكالات ملف الحدود الجنوبية البرية اللبنانية، بعد نجاحهم في ترسيم الحدود عبر تفاوض تقني غير مباشر، نفّذته واشنطن على خطي لبنان وإسرائيل.
-يستمر الصراع الدولي في ساحات عدة، ابرزها بين الروس والغرب عبر الساحة الاوكرانية، مما يساهم في زيادة ازمات الاقتصاد العالمي، ويحتّم الاعتماد على الذات إقتصادياً ومعيشياً.
-وضعت الدول العربية العوامل الاقتصادية والعلمية التقدمية بنوداً اولى في سياساتها الاستراتيجية، وهو ما يدفع بإتجاه تخفيف حدة الصراعات واعتماد منطق التسويات.
-وصل لبنان الى مرحلة مالية صعبة، لعدم وجود موارد مالية للدولة، ومن دون استعداد عواصم العالم لرفد لبنان لا بقروض ولا هبات، من دون اصلاحات باتت مرهونة بالحلول السياسية.
لذلك، فإن دعوة بري استشرافية، فلا بدّ من حوار منتج، فإنتخاب رئيس، وتنفيذ اصلاحات تعيد ادخال لبنان في دورة الاقتصاد الاقليمي والعالمي.