لم تكن وحدها الحروب يوماً أداة لتدمير الدول والمجتمعات. عوامل كثيرة عبر الزمان أدّت الى انحدار دول من مصافّ الدول المتقدّمة الى درجة جعلت مواطنيها يهربون الى بلد آخر بحثاً عن الراحة والأمان الاقتصادي، بعدما باتت رواتبهم لا تكفي لآخر يوم من الشهر.
هذه هي حال كندا، هذا البلد الذي طالما كان ملجأ للشعوب منذ منتصف القرن التاسع عشر، ومأوى أمان ووطناً بديلاً للعرب منذ 140 عاماً. لجأتْ عائلاتٌ بأكملها كي تبني لأبنائها مستقبلاً آمناً، فوجدت في أكثر بقعة باردة في العالم حضناً دافئاً لكل أفراد الأسرة حتى نهاية العمر من خلال نظامِ شيخوخةٍ كريمة عبثاً نشدته في أوطانها.
من أفريقيا وصلوا بمئات الآلاف الى هذا الوطن المتحضّر، ومن الدول العربيّة هربوا من أنظمتهم بحثاً عن واحة ديمقراطية. وكم رأينا الدموع تنهمر في الصالات الحكومية، حين أَقسموا يمين الولاء عند الحصول على الجنسية الكندية... الحلم.
ماذا يحصل اليوم في كندا اليوم؟.
لقد ارتفعت أصوات المواطنين في السنتين الماضيتين، حتى وصلت الى الولايات الأميركية حيث لجأ الكثيرون منهم اليها ودول أميركا اللاتينية، فوجدوا وطناً بديلاً عن بلادهم التي لم تعد صالحة للعيش وسط غلاء فاحش وارتفاع الضرائب على المواد الاستهلاكيّة وعلى إيجار المنازل، فاستبدل الكثيرون من المواطنين الكنديين منازلهم بوحدات سكنيّة أصغر، او لجأوا للسكن في أحد طوابق منازل ذويهم، في حين "هشَلَ" آخرون الى الإقامة في دول أميركا اللاتينيّة مثل غواتيمالا والبيرو حيث المعيشة المتواضعة بأقل كلفة.
يفرض النظام المالي في كندا على الأفراد والشركات مجموعة من المتطلبات، منها متعلّق بالإقرار الضريبي وآخر خاص بالبيانات المالية، يتلقى مقابلها المواطن الكندي كامل مستحقات طبابته ودراسة أبنائه من أول صفوف الحضانة وحتى الدراسات الجامعية التي تعطي كل طالب منحة او مساعدة، فيجلس ابن الغني الى جانب ابن الفقير على المقعد الدراسي نفسه. ولكنّ النظام الصحّي تدهور في السنوات العشر الماضية بشكل ملحوظ، بحيث باتت حياة كل مواطن كندي في خطر. يفهم المرء في الدول المتقدّمة ان ايّ معاملة يريد إتمامها في بلاده تتطلب الوقوف في الصفّ ريثما يصل الدور اليه. فكندا هي إمبرطورة نظام المداورة حتى في الطبابة. لكن كيف يمكن لمريض سرطان او غسل الكلى او آخر يحتاج لعملية جراحية مثل التهاب الزائدة او المرارة أن ينتظر دوره بعد سنتين او أكثر للحصول على العلاج؟ أما عن مرارة الإنتظار في غرف الطوارئ حتى ساعات الفجر الأولى دون التمكّن من مقابلة الطبيب، حكايات أخرى من عذابات المواطن الكندي!.
في الواقع، لجأ الكثير من اللبنانيين الى لبنان في السنوات الماضية لإجراء عمليات جراحيّة، لأّن الموت يُداهم حياتهم إذا تأخروا عن إجرائها. فالسيدة ك. ع. ذهبت الى لبنان عام 2019 لإجراء جراحة نسائية. والسيدة م. ع. سافرت ايضاً السنة الماضية للهدف نفسه، لأنها لم تعد تتحمّل الأوجاع التي لم تهدِّئها المسكّنات. كنديٌّ آخر لجأ الشهر الماضي الى فلوريدا في الولايات المتحدة كي يتلقى علاجه بعدما أصيب بسرطان في الرأس، لأن اسمه وضِع على لائحة الانتظار... قصصٌ وأحداثٌ واقعية لا ينتهي سردها تمثّل حالة التدهور والضياع في النظام الصحّي، والخلل الواضح الفاضح فيه، انعكس على الأداء الطبي في البلاد. فنسمع مثلا عن اللبناني ط. ح. الذي أُخضع لجراحة لاستئصال الكلية، بعدما شُخّصَت اصابتها بداء السرطان، ليتبيّن فيما بعد أنها سليمة. والسيدة س. ج. التي ربحت جائزة لوتو في الحياة، عبارة عن تصوير شعاعي في الرأس، بعد خمسة أشهر من حادثة تعرّضت لها، إثرَ تدخُّل القوى السياسية والدبلوماسيّة اللبنانية في كندا، وذلك بعدما أصيبت بشلل في الجسم ولم تعد قادرة على النطق. وكان وجب عليها انتظار دورها لمدة ستة أشهر للحصول على دورٍ للتصوير الشعاعي .!
اعتاد المواطن الكندي الوقوفَ في الصفّ وانتظار دوره، وارتاح لهذا التدبير الحضاري. يقول احد المهاجرين من زحلة: "انتظار الدور والوقوف في الصف هو الشيء الذي حملني للهجرة الى كندا، لكن لا يجوز إطلاقاً الانتظار في الصف في الأمور الصحيّة. فنحن جئنا لضمان الطبابة والشيخوخة، فإذا بالطبابة تصبح "بالدور"، فمن الأفضل عن نعود الى بلادنا لأن حياتنا أصبحت في خطر"!.
فتحَتْ كندا قلبها وديارها لكل مهاجر من أينما جاء، وأعطت كل مهاجر مساعدة يوم الوصول. ففي السنوات الماضية استضافت الآلاف من الأفغان والأوكران نظراً لأسباب اللجوء التي حملتهم على ترك ديارهم الغارقة في الحروب والمآسي.
تراجعت حظوظ المهاجرين العرب في الفترة الماضية لصالح من هم بحاجة الى لجوء وأمان. لم تدَعْ كندا، من خلال نظامها العادل والديمقراطي، أيَّ مهاجر في الماضي ينام على وجعٍ او فقرِ حال، فكانت تؤمّن له المأوى والمساعدة المادّية عند الوصول، لكنها أصبحت الآن غير قادرة على استقبال مهاجريها بالطريقة نفسها. والمحظوظ هو الذي تتوفر له عائلة تُعيلُه في الفترة الأولى، وتقدم له مكانا من منزلها، ريثما يتمكن من استئجار مكان مستقلّ له. وتتعالى صرخات المهاجرين الذين يجدون صعوبة اليوم في تأمين أهمّ متطلبات الحياة من سكن وغذاء.
التدهور الاقتصادي بات واضحاً في السنتين الماضيتين، فلم تعد المحالّ التجارية تعجّ بالمشترين، وأصبحت تلك التي تبيع موادَّ مرتفعة الثمن، تقفل لأيامٍ وسط الأسبوع، نظراً لضعف توافد الزبائن. ناهيك عن صعوبة إيجاد عمل؛ فالبطالة ضربت بقياسات مختلفة معظم دول العالم حتى الولايات المتحدة وكندا الآمنة البعيدة.
كلّ ذلك همٌّ، والقرار الذي اتخذته وزارة التربية همٌّ آخر يطرق يومياً باب العائلات التي تقلّ أعمار أبنائها عن الأعوام العشرة. فالقرار، الذي دعا الى إدخال مادّة التربية الجنسيّة، أقلق معظم الأهالي، الذين استطاعوا في مقاطعة "كولومبيا البريطانية" ان يحصلوا على قرار حكومي يقضي بسحب أطفالهم من دروس التربيّة الجنسيّة، لأنهم وجدوا انّها لا تخلو من عواقب مدمّرة على الأطفال.
غريبٌ أمر رئيس الوزراء الكندي، الذي وجد خطة وميزانية للعلاج الهرموني وقدّمها على علاج مرضى السرطان، ومنح من خلال قرار حكومي كلَّ موظف يرغب في تغيير هويته الجنسية مبلغ 75 ألف دولار كندي!.
لم يقف البرلمان الكندي متفرّجاً في الآونة الأخيرة. إذ تعالت أصوات النواب فيه بشكل يومي وفي شتى المواضيع، من الدفاع عن المواطن ولقمة عيشه إلى معارضة القرارات الأخيرة الخاصة بدروس التربية الجنسية للأطفال. ولكنّ الغريب ان ليس هناك حتى الساعة من خطّة تحمي المواطن وتعمل على التوازن بين الضرائب التي يدفعها وبين الرواتب، لأنّ المواطن الكندي يدفع شهرياً "تاكس ضريبي" حوالي نصف راتبه؛ فالغلاء يستفحل في البلاد والرواتب بقيت كما هي عليه قبل 2020 عام الوباء الشهير.
سؤال يُطرح، من يهدم الدولة الملجأ في العالم؟ من يُخرّبها؟ لماذا لا تحرّك الحكومة ساكناً أمام هذا الوضع المتردّي في البلاد، الذي جعل من الكثيرين يغادرونها الى مكان أكثر طمأنينة ورغَداً؟ هل ما يدور من تخريب وحروب في دول افريقيا يصيب كندا اليوم في شكل حرب اقتصادية باستطاعتها هدم البلاد وزعزعة الحياة الآمنة وإيقاف التطوّر المشهود لها، وخاصة في جامعاتها المتقدّمة عالمياً؟.
نظرة واحدة الى موارد كندا الطبيعية تجعلنا نعتقد ان البرامج السياسية العالميّة الخفيّة الطامعة في العالم تصيب اليوم الدول الغنيّة، كما الدول الأفريقيّة، فهذا البلد يملك أكبر ثالث احتياط للنفط الخام في العالم والماس وكافة أنواع المعادن، وأهمها اليورانيوم المطلوب بكثافة عالمياً، ناهيكم عن ثروة الأخشاب والغابات التي استعرت فيها حرائق بلغت الاف الهكتارات في بداية هذا الصيف وقبل وصول موجات الحرّ، حرائقُ شرّدت عشرات الآلاف من السكان، ووصلت الى مقربة من آبار النفط في مقاطعة ألبِرتا، فوصلت سحُب دخانها الى ولايات الشمال الشرقي في اميركا مثل بوسطن وبنسلفانيا ونيويورك.
ونسأل: من يحرِق كندا؟!.
الأمم المتحدة-نيويورك