كان واقفا في منتصف الطريق حاملاً إبنه الذي لم يتخطّ عمره الخمس سنوات، ينادي "مبيت للزوار" ويكررها مرة تلو المرة، فسألته لمزيد من الاستيضاح فتبين أنّ الرجل يريد استقبال زوار الامام الحسين في الاربعين في منزله للحصول على شرف خدمتهم، ويحمل ابنه معه كما كان والده يحمله لتعليمه.
هذه ليست حالة فريدة، بل حالة من حالات عديدة شاهدتها بأم العين لأشخاص عراقيين وغير عراقيين، يتوسلون المتوجهين على أقدامهم من النجف الاشرف الى كربلاء، لتقديم المأكل والمشرب والمنامة لهم، كذلك بعد وصولهم إلى كربلاء، حيث البيوت مفتوحة للزوار، واهل البيت يمكثون في غرفة واحدة من منزلهم الكبير.
على طول ١٤٥٢ عاموداً، يفصل بين العامود والاخر ٥٠ متراً، تمتد طريق "المشاية"، وهي التي تُقطع سيرا في ذكرى ٤٠ استشهاد الإمام الحسين، والتي تشهد على طول مسارها مواكب الخدمة بكل أنواعها.
للبنانيين حصّتهم في هذه المواكب، والزائر اللبناني يملك لائحة بأسماء المواكب اللبنانية ومكان تواجدها بحسب ارقام العواميد، وأغلبها تركز على استقبال الزوار اللبنانيين للمبيت والراحة والاكل والطبابة، وهو ما كان صعباً للغاية هذا العام بسبب زيادة أعداد اللبنانيين، حيث غصّت مواكبهم بهم.
مواكب كثيرة وأخرى ضخمة، ولعل افضلها هذا العام كان المضيف الكويتي المسمى بمضيف عبدالله الرضيع ١١٠، حيث كان ضخماً بمعدّات طبخ ثقيلة، وخط انتاج كثيف.
تبلغ الحرارة في هذا الوقت من السنة حوالي ٤٥ درجة مئويّة في كربلاء، حيث تتواجد العتبة الحسينية والعتبة العبّاسية، وهذه الحرارة الكارثيّة تزداد صعوبة عندما تكون الحشود بالملايين، ولمواجهة هذه التداعيات، تشير مصادر متابعة أنّ العتبات المقدّسة تمكنت هذا العام من تخفيض الحرارة بمقدار ٧ و٨ درجات مئويّة في شوارع كاملة محيطة بالحرمين، وذلك من خلال التوفيق بين مدّ اغطية الخَيْش فوق الشوارع، وتكثيف عمل المراوح الضخمة التي ترش رذاذ الماء.
وتكشف المصادر أنّ هذه الطريقة نجحت وسيتم اعتمادها اكثر بالمواسم المقبلة، خاصة أن ذكرى الاربعين ستصادف في الصيف الحار لعشرة اعوام قادمة، مشيرة الى أن المهندسين المختصين يدرسون وسائل جديدة لتخفيض حرارة الشوارع المحيطة بالعتبات.
في اليوم السابق للأربعين، وليلته، تغزو مواكب اللطم والمواساة المنظّمة الحرمين وما بينهما، ومن بينها على سبيل المثال موكب عشيرة بني عامر الشهيرة في العراق والتي جسدت هذا العام كتب القرآن الكريم، بظل ما يتعرض له، ويتم نقل وقائع دخول المواكب وخروجها على الهواء مباشرة، لكن بعضها هذا العام كانت غريبة.
صحيح أن عددها قليل لكنها ملفتة لنظر كل من شاهدها، فهذه المواكب تضم أشخاصاً يتّشحون بالوحل، ويمارسون طقوس لطم على الوجه غريبة، على وقع "لطميّات" غير مألوفة تتداخل معها الموسيقى الغربية، وضربات الأيقاع، و"البيتبوكس "beatbox، وهو ما كان لافتاً السماح بمروره من قبل القيمين على العتبات المقدسة، رغم أنهم لا يؤيّدون هذه المواكب ويعملون على الحدّ منها ومواجهتها.
لا تسمح العتبات لهذه المواكب بدخول المقامين بل المرور بينهما فقط، ولا تُنقل مشاهدهم مباشرة على الهواء، لكن المشاهد تصل لكل العالم بوجود الهاتف الذكي، مع العلم أن هناك خلافاً حول أصل هذا النوع من الاناشيد، حيث يقول الاغلبيّة أنّ مصدرها إيراني، بينما يقول البعض أنه عراقي.
هذه المناسبة تعدّ الاضخم على صعيد العالم من حيث الجموع المشاركة، ٢٢ مليون ونيف شاركوا هذا العام، من جنسيّات متعددة وحتى مذاهب مختلفة، ففي ذلك المكان تغيب السياسة وعندما تغيب السياسة تختفي الفوارق بين المذاهب والاديان، فالحسين قضيّة انسانيّة من الظلم حصرها بفئة واحدة.