مع زخّات مطر أيلول، وصل الرؤساء والملوك وقادة الحكومات الى نيويورك. أُغلق محيط المنظمة الدولية ببلوكات الباطون والحواجز الحديدية حفاظاً على أسياد الدول. منذ ظُهر البارحة، امتلأت فنادق نيويورك بالوفود الدوليّة، التي قلبت هدوء المدينة المريضة جراء إصاباتها البليغة بوباء كورونا، فتحولت الى خلية نحل دبلوماسيّة، لا تتحدث عن الحروب، بل عن الأزمات الاقتصاديّة الخانقة.
وصل الرئيس الأميركي جو بايدن ومعظم رؤساء الدول الكبرى ما عدا رئيسَي الصين وروسيا، حيث اعتادا إيفاد رؤساء الوزراء او وزراء الخارجية. لقد اعتبرا انه قيل ما قد قيل في قمة مجموعة البريكس التي عُقدت الشهر الفائت في جنوب أفريقيا، ولا حاجة للمشاركة في الجمعيّة العامة وإلقاء الخطب العلنيّة، في حين انّ القرارات السياسية تُحاك في أروقة الظلّ خارج الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من المطر المنهمر في المدينة، تشهد ساحاتها حركات احتجاجية خصوصاً أمام الفنادق التي ينزل فيها رؤساء الدول وخاصة الأفريقية منها، لدرجة استدعت استقدامَ عناصر إضافية من الشرطة الأميركية لحماية الوفود الرئاسية. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لن يسلَم بدوره؛ فالاستعدادات الشعبية لأبناء الجالية الإسرائيليّة للتظاهر ضدّه، لمعارضة التعديلات التشريعية بقانون السلطة القضائية، يجري ترتيبها من نيويورك الى كاليفورنيا بأعداد كبيرة. تجري العادة ان تُنظَّم الاحتجاجات امام مبنى الأمم المتحدة في مثل هذا الأسبوع لتوجيه التُّهم الى دول أخرى تتدخل في قرارات وسيادة دول المتظاهرين. اما احتجاجات ما بعد كورونا، فقد غيّرت مضمونها وأهدافها، وأصبحت احتجاجات اقتصادية في وجه الرؤساء.
وصل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي حاملاً معه مآسي الحرب الروسيّة على بلاده، ومنذراً بحرب عالمية ثالثة إذا استمرت موسكو بتدمير بلاده وباقتحام بولندا التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين مراراً انها الوجهة الثانية بعد اوكرانيا. فهل سيُقنع زيلنسكي الدولَ المشاركة، وخاصة الغربية منها والولايات المتحدة، بالوقوف معه عسكرياً كي تتوقف الحرب؟حتما لا، فأميركا والغرب يحاربان روسيا بأموال الدول الفقيرة كالأفريقية، وقد بذخا عليها أكثر من 70 مليار دولار. فالغرب يحارب بزنود الأوكران، ولن يضحّي بعسكري واحد في معركة غير مضمونة النتائج.
بايدن، أمير المتحدثين في الجمعيّة العامة، حتماً لن يَسلَم من انتقادات الدول المناهضة لسياسته مثل روسيا والصين من ناحية السياسة الخارجيّة. اما في داخل بيته، فلقد خسر أكثر من 60 في المئة من شعبيته ودعم حزبه الديمقراطي، وقد بات في موقع لا يُحسد عليه بعد الانتكاسات الاقتصادية والمالية التي مُنيتْ بها المؤسساتُ الأميركية في عهده. فهل "سيَنعي ويشكي" الرئيس الاميركي، كما معظم رؤساء الدول، حاله الاقتصادية؟ وهل سيبوح بـ38 فرعاً مصرفياً تتهيأ للإغلاق قبل نهاية العام في نيويورك؟ هل سيعترف أمام كافة الدول بالتقارير الأمنية الورادة التي تُنذر بلاده بخضّات أمنية سوف تخلقها الاهتزازات المصرفيّة، وقد تصل الى حدّ الحرب الأهليّة؟ حتماً لا، ولن يهاجم الصين علماً مع أن إدارته لا "تنام ملء جفونها" من دولة غزت العالم بصناعاتها الذكية واقتحمت افريقيا بغفلة منها. فعلى الرغم من تفوّق أميركا عالمياً في الأسلحة والقدرات العسكرية، فقد بدأ الشكّ يعبث في قدرات جيشها، وخصوصا انّ عدو كوريا الجنوبية والولايات المتّحدة يهدّد بجنونِ استخدام النووي، وهو على تعاون عسكري تام مع روسيا... لقد أصبح أعداء أميركا كُثراً، لكن العدوّ الأول هو كل من يحارب الدولار بسلاح عملته المحليّة.
للجمعية العامة هذا العام أجندات مختلفة تماماً عن تلك التي اعتدنا عليها. فلم تعُد تهمها سوريا ولا اليمن ولا ليبيا الغارقة في وحُول الإعصار ولا حتى أوكرانيا المنكوبة، ولم يعد مجلس الأمن حافظاً للأمن، بل أصبح مجلساً شاكياً باكياً من جنون كيم جونغ أون النووي المتصاعد، وبات غير نافع بإصدار القرارات الدولية، بل الاكتفاء ببيانات رئاسية لا فائدة منها ولا مفعول.
أجندة الأمم المتحدة هذا العام ملوّنة بألوان الحداثة والتكنولوجيا والتجارة. ستكون "مبادرة الحزام والطريق" و"طريق التنمية الاقتصادي" الذي يربط دول الخليج بأوروبا، في رأس المباحثات في الأروقة والاجتماعات الثنائية في الأمم المتحدة، باعتبارها المنقذ من الأزمة المالية والتجارية التي ضربت العالم في السنوات العشر الماضية. و"الشاطر بشطارتو"، والرئيس الذكي هو الذي يقدر ان يُقنع أرباب الطُرق بمرور شريان تجاري في بلاده. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يسعى لاستعادة مكانة تركيا العثمانية في الشرق العربي من خلال خط مرور "للمشروع الاقتصادي" بهدف الانتعاش المالي ويُبعد شبح الأزمة الاقتصادية. سوف تشهد المنظّمة هذا العام تحالفاتٍ اقتصادية جديدة في المنطقة، تسعى الى تعظيم اقتصاديات دولها وحمايتها من مخاطر تعطّل سلاسل الإمداد مثلما حصل إبّانَ وباء كورونا، إضافة الى الهدف الرئيس هو المزيد من السيطرة.
موضوع آخر يشغل المراقبين والصحافين في دورة الجمعيّة هذا العام، هو كيفيّة مواجهة الذكاء الاصطناعي الذي اقتحم الدول الغنيّة والمتطورة بغفلة من الإستهتار البشري، الأمر الذي يُنذر ببطالة وفقر لدى فئات عمريّة منتجة. فالعديد من اجتماعات الدول المتطورة تتمحور حول هذا "الاصطناعي"وتترك معالجة الفقر والمناخ لأمين عام الأمم المتحدة وأعوانه وممثليه في العالم.
اما لبنان، فأين يقف من الأجندات العالمية هذا العام؟ وهل سيستطيع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ان يتعاون كبرنامج مشاركة في طريق التجارة العالمية من الصين والهند، مروراً بدوَل الخليج؟ وهل سيستطيع الممثّل اللبناني ان يُقنع العالم بجعل بيروت جسر عبور نحو اوروبا، خصوصاً وان نتانياهو قد عرض "أو فرَضَ" كل خدمات بلاده لجعل إسرائيل ممر عبور للتجارة العالميّة؟ حتماً ان ميقاتي مع وفده سيواجه صعوبة للدخول في هذه المناقشات التجاريّة وهو غارق في التوسط لحلّ أزمة النازحين.
لا يُحسد ميقاتي ولا يُلام على ضيق تحركاته، لأنّ حجمها لا يتعدّى حلّ مسألة النازحين السوريين والإستدانة من البنك الدولي وسط انقسامات سياسيّة عاموديّة في بلاد الأرز. كيف سيطرح المشاريع الإنمائية والخدماتية مع حكومة مستقيلة ودولة مفلسة مالياً، ومن دون رئيس للجمهورية؟!.
لكن من خلال متابعته لحلقات النقاش في الجمعية العامة، من المنطقي انه سيأخذ معه الى لبنان حلاً يُنهي مشكلة الملف الرئاسي. سوف تنصحه الدول برئيس آليّ "روبورت"، من إنتاج برامج الذكاء الاصطناعي! فما دام الأفرقاء في لبنان لم يتوصّلوا حتى اليوم الى الاتفاق على رئيس، فلِمَ لا يستعينون بالتكنولوجيا الحديثة، ويطلبون من اليابان صناعة رجل آلي يصلح ليكون رئيساً للجمهورية، مع مواصفات معيّنة، حيث تتحكم الولايات المتحدة بدماغه، والحزب بأذرعته، والدول الغربيّة بثقافته؟! وهكذا يصبح للبنان رئيساً "راوح مكانك"، يشبه الى حدّ كبير حاكماً طبيعيا تختاره الدول المذكورة؛ رئيسٌ خليجي بنكهة فارسية ولباس غربي. أفليس هذا حلاًّ يُرضي الجميع الى حين ان يتوصل الطبّ الى اختراع دواء لمحاربة النكايات السياسية، وخاصة لمعالجة الأفرقاء المسيحيين في لبنان؟!.
سمر نادر
الأمم المتحدة-نيويورك