الأبوّة أمرٌ عظيم لا يستحقّه كلّ متزوّج. إنّه تفّويضٌ من الله لاحتضان العائلة وبذل الذات بغية حفظها وحمايتها وتدبير أمورها. هذا التفّويض يفترض شروطًا، تنطلق من عناية الرجل بأخلاقه ومناقبيّته وفضائله، فلا يبدّد وزنات الله التي منَّ بها عليه. بالتالي يستثمر هذه المواهب لمصلحة بيته وعائلته، عن طريق الإخلاص الزوجيّ وسلوك درب العفّة والأمانة والحكمة، ويلازم بيته وزوجته وأولاده خارج دوام العمل والالتزامات الضروريّة. هكذا تغدو الأبوة مقدّسة.
يحضر أمامي والدي، في ذكرى غيابه العشرين. أستذكر حسناته يوميًّا، وأستذكر فترة مرضه، الذي طال لسنوات عديدة، وكنت شاهدًا على أنينه وأوجاعه التي احتملها كجنديّ صالح لخالقه.
كنت أسأل والدتي، رحمها الله، إن داهمها التعب واليأس والإحباط في خدمته، فيأتيني الجواب تلقائيًّا "يا أمي شو ما خدمتو مش وفا لفضلو علينا".
صورة الأب الصالح والأم الصالحة تبقى عالقة في ذهن أولادهم، وفي مشاعرهم وكيانهم ووجدانهم. هذه الصورة تنشأ من المعاملة والتضحية، ومن الأفعال الخيّرة. فإن كانت المعاملة سليمة وصحيحة، وفيها من المحبة والعطاء وبذل الذات، وفيها الودّ والسلام والهدوء والاستقرار، وبعيدة عن الانفعالات والتشنّجات المتسرّعة، فطبيعي عندها أن يَنشدّ الأولاد لأبيهم وأمّهم على السواء، ويصبحوا الحضن والملجأ الأمين لهما.
الأب الصالح هو الذي يعتبر نفسه خادمًا لأولاده من دون منّة. يسهر على يوميّاتهم، في فرحهم وحزنهم، ينمّي مواهبهم ويتابع تثقيفهم ونشاطاتهم. هو الذي يمنحهم الحرّية المدروسة لا المطلقة، حتى لا يقعوا في المحظور. يزرع فيهم روح التواضع، وهذا كفيلٌ بأن يصيّرهم أبناءً لله، ويرفعهم إلى مراتب عالية من الرقيّ والأخلاق الحميدة.
بالمقابل، الأبوّة المتينة والناجحة، تعزّزها علاقة زوجيّة صالحة. وقد ورد، عن المرأة الفاضلة، في سفر الأمثال: "اِمْرَأَةٌ فَاضِلَةٌ مَنْ يَجِدُهَا؟ لأَنَّ ثَمَنَهَا يَفُوقُ اللآلِئَ. بِهَا يَثِقُ قَلْبُ زَوْجِهَا فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى غَنِيمَةٍ. تَصْنَعُ لَهُ خَيْرًا لاَ شَرًّا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهَا" (أمثال ٣١: ١٠-١٢).
من هنا التكامل بين الزوجين أساسيٌّ في حفظ البيت والعائلة والأولاد. المرأة الحكيمة هي سرّ الأمومة الناجحة. والمرأة الفاضلة هي التي تساعد زوجها على أن يكون أبًا صالحًا، فلا تستأثر بمجريات الأمور، ولا تنكّد عيشته، ولا تستقلّ بشخصيتها، ولا تنحرف إلى السوء وتجرفه معها. الزوجة الوفيّة، والعفيفة النفس والجسد واللسان، والنشيطة، والقنوعة، والخدومة، والمثقّفة، والذكيّة، والتقيّة، يمكن الاعتماد عليها في كلّ الأوقات وفي مختلف ظروف الحياة. بهذه الصفات تكون المرأة تاجًا على رأس زوجها، فيحبّ الرجل امرأته ويبذل نفسه من اجلها كما أحبّ المسيح الكنيسة وبذل نفسه من أجلها.
مكانة الأمّ عظيمة في بناء البيت الزوجيّ، وتحويله إلى عائلة مقدّسة. لو لم يكن للأمّ الدور الأساسي في تقديس البيت، لما اختار يسوع المسيح أن يولد من إمرأة، مريم العذراء، التي امتازت بصفات أهّلتها لتكون "أرحب من السماوات"، بمجرّد طاعتها لكلمة الرب. ولذا قال لوقا في إنجيله عن مريم: "لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي" (لوقا 1: 48). من هنا، كلّ امرأة تطيع كلمة الله ستحظى بأمومة مقدّسة.
التعاون الوثيق والصادق بين الزوجين، كفيلان بأن تسير الأبوّة والأمومة في دربها الصحيح، وأيّ إلغاءٍ لفريق للآخر سيعطّل تلقائيًا دور الأبوّة والأمومة على السواء، وعندها "يُتركُ لكم بيتُكم خرابًا".