اسرائيل في ورطة العمر. انتظرَتْها من الصفائح الإلكترونية، فأتتها على خيول ليليّة، خطّت بالورقة والقلم معركة فاجأت بها العرب أكثر مما فاجأت أميركا والغرب. عادت الحرب الى الشرق الأوسط الذي طالما بحثت الأمم المتحدة في إيجاد حلّ لقضيته عبر الدبلوماسية، لكنه لم يخرج من أدراج الوثائق. استفاقت اسرائيل "عمياء" بعد ان استولت حماس على أجهزة الاستخبارات والكومبيوتر، ونهضت في السابع من تشرين الأول الجاري. من دون أبنائها.
الحرب تعني الدمار. غزّة الفقيرة تصارع البقاء دون ماء، دواء أو كهرباء. لم يخطئ مبعوث الأمم المتحدة مارتن غريفيث حين صرّح إن شبح الموت يخيّم على غزة. ولم تعبّر مشاهد الحرب في إسرائيل سوى عن شعب يعيش في الملاجئ وكأنّه ينتظر قطار الموت! حكومات اسرائيل المتعاقبة كانت تضرب بالحائط برنامج "حل الدولتين"، الذي وقّعت عليه دول العالم... حتى جاء السابع من الجاري، الذي من شأنه ربما ان يرسم "سايكس-بيكو" جديداً للشرق الأوسط.
"طوفان الأقصى" مفتوح على كل الاحتمالات، ما عدا احتمال وقف إطلاق النار القريب إلى أن تحين المفاوضات. اسرائيل المنتكسة اقتصادياً، والتي خسرت ٣٠% من قيمة عُملَتها في أسبوع واحد، تكاد تخسر حُلمها كعاصمة الشرق الأوسط للتجارة العالميّة على مضض، راحت تستنجد بأمّها الحنون أميركا، فوصل اليها وزير الخارجية أنطوني بلينكن، خالعاً رداءه الدبلوماسي، لابساً رداء اليهودية، واعداً بالدعم الأميركي الى ما لا نهاية. كيف لا، واسرائيل هي الكيان الأميركي الحاضر في الشرق الأوسط، والذي ستبذخ الولايات المتّحدة من أجله أضعاف ما تكرّمت عليه لأوكرانيا. ولكن هل ستتدخل أميركا عسكرياً أم يبقى دعمها في إطار السلاح والمال؟!.
إذا استعرضنا الموقف الأميركي من الحرب، وجدنا ان الأميركيين، وإن اختلفوا في أي مسألة، إلا أن أمن دولة اسرائيل يجمعهم، كونها مرتبطة عضوياً بهم.
من ناحية المال، الولايات المتحدة قادرة على تزويدها به، فهي أثرى دولة في العالم، ولكن هل هي جاهزة للتضحية بجنودها بعدما خسرت الآلاف منهم في أفغانستان والعراق من دون تسجيل انتصار؟! اميركا التي تلتقي اليوم في منتصف الطريق مع إيران، في المباحثات النووية وفي الاتفاق على موضوع اليمن، لم تتّهم إيران في ضلوعها بالحرب الجارية بين اسرائيل وحماس، وألقت مع دول الغرب كلَّ اللوم على "كتائب القسّام"، وهي تعمل في الظلّ على إيقاف الحرب والتوجه الى المفاوضات، لأن نفَس الحرب الإسرائيلي قصير الأمد، وإن يكن النَّفَسُ الفلسطيني أطول قليلاً، لكنّ الأخير تعوّد على رائحة البارود "والعيش بالفقر"، في حين ان المدلّلة إسرائيل تعيش رفاهية أميركا في الشرق الأوسط، وستخسر في الحرب في بُنيتها واقتصادها وهو أكثر بكثير مما تخسره غزّة المنكوبة في الأصل.
الكلّ شاهدَ حاملات الطائرات الأميركية، والكلّ أيقن ان أميركا الذكيّة لن تُعيد تجربة فيتنام ولا العراق ولا أفغانستان، وهي لن تدخل أيَّ حرب إلا بمالها أو بالوكالة.
من راقب تحركات السفير الإسرائيلي منذ عامين وحتى اليوم في الأمم المتحدة، يفهم تماماً تحرّك العالم باتجاه ردع "حزب الله" عن الدخول في الحرب. السفير داني دانون اشتُهر في حمل الصوَر في الأمم المتحدة، ورفع أكثر من مرة صورة "خيمة" الحزب أمام الأمين العام، وطالبه بالضغط على الحكومة اللبنانية للعمل على "فكّ الخيمة"، الّتي أوضحت للأميركيين ضعف اسرائيل بقيادة بنيامين نتانياهو، الذي سقطت أوراقه وأوراق "الليكود" مع وصول الخريف الإسرائيلي.
الكل في ورطة. الشعب الفلسطيني يعدّ أنفاسه في غزة. آلة الدمار الاسرائيلية تقضي على المواطنين الغزّيين، الناس حطبُ وقودٍ في الحرب. اسرائيل الأكثر تضرراً وهي خسرت ٤٠ كلم من مساحتها، فأصبحت تحت قبضة حماس، توهِم العالم بأنها ستغزو غزّة، لكنها لم تلقَ ايّ تشجيع أميركي، خاصة بعد تهديد وزير الخارجية الإيراني الذي أنذرها بالخراب إذا أقدمت على هذا العمل.
"جوكِر" السياسة في العالم العربي "السعوديّة" الّتي جمّدت عملية التطبيع، مع وصول وزير الخارجية بلينكن الى الرياض، وقد بدا واضحاً بعد هجوم حماس ان دول الخليج العربي لم تعد تصطفّ الى جانب الإسرائيليين، لمجرّد انها رفضتْ ان تدينهم.
هل تتحمل اميركا وِزرَ حربيْن، بين اوكرانيا والشرق الأوسط؟ حتماً لا. حتى ولو أن أكثر ما يهمّ الإدارة في غزّة اليوم هو 1.4 تريليون قدم مكعّب من الغاز ، فتصريح المتحدث باسم البيت البيض اليوم أنهى بشكل غير رسمي حربَ اوكرانيا بعد أن أعطتها أميركا الجرعة الأخيرة، عبارة عن 200 مليون دولار، تاركةً الرئيس الأوكراني فولوديمير زلنسكي يلملم مأساة بلاده بعد صراع دامٍ مع روسيا.
الحرب الى أين؟ كل الأجوبة محتملة، لكن الحقيقة الإسرائيليّة واحدة؛ فهي بحاجة الى دعم كل العالم، فعلياً، وليس كدعم اوكرانيا، ومن أمين عام الأمم المتحدة الى أصغر دول العالم كمالطا. فهل تقدر اوروبا ان تركب قطار الحرب وهي غارقة في أزماتها الإقتصادية وأزمة الغاز والقمح ومع روسيا؟!.
من المؤكد ان كل الحروب تنتهي بالتسوية لصالح المنتصر. اسرائيل معها الغرب وأميركا، وفلسطين ومعها مفاتيح القدس العتيقة، وأمامها حلّ الدولتين ودعم إيران. لن يقدر أيّ طرف في الصراع على إلغاء الآخر مهما طالت المعارك. فالناس خاسرة ولو انتصرت قياداتها. إسرائيل تنظر الى عيد آخر في مستوطناتها، وفلسطين لن تُقفل باب مدينتها، فهي ذاهبة لتصلّي... والى الحرب.
الأمم المتحدة-نيويورك