أعلن المجمع الأنطاكي المقدّس، المنعقد في دير البلمند، يوم الخميس ١٩ تشرين الأول ٢٠٢٣، برئاسة صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر يازجي، قداسة الأبوين نقولا وحبيب خشّة.
يأتي هذا الإعلان بارقة أمل ورجاء لنا نحن السائرين على درب الجلجلة في هذه البقعة من العالم، ودليلاً على أنّ درب القداسة لم تتوقف شهادةً ليسوع الناصريّ المتألم مع أطفال وأهالي غزّة وكل المعذَّبين في العالم. تزامن هذا الإعلان أيضًا، مع قبول كنيسة روما، تطّويب البطريرك إسطفان الدويهي،"لأَنَّ هذِهِ هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: قَدَاسَتُكُمْ" (١ تسالونيكي ٤: ٣).
إعلان قداسة الأبوين خشّة توّج أعمال المجمع الأنطاكي المقدّس، والمؤتمر العلمي الدولي، الذي انعقد على مدى ثلاثة أيام في رحاب البلمند، وحمل عنوان "الكنيسة الارثوذكسية الأنطاكية من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر: نحو فهمٍ دقيق للتاريخ"، برعاية البطريرك يوحنا العاشر يازجي وحضوره.
احتضنت هذا المؤتمرَ جامعةُ البلمند ومعهد القدّيس يوحنّا الدمشقي اللاهوتي، وشارك فيه كوكبة من الدارسين والمحلّلين، وأساتذة اللاهوت والتاريخ والعقائد. تطرّق إلى مواضيع مهمّة واساسيّة في الوجدان الأرثوذكسيّ.
ربّ سائل عن فحوى هذا المؤتمر في ظلّ الأوضاع العصيبة التي نعيشها، من أزمات اقتصادية، وأمنية، واجتماعية تحيط بنا وتثقل حياتنا. هذا فضلًا عن المجازر التي يتعرّض لها الأخوة في فلسطين المحتلّة، وتحديدًا في غزّة، وما يشهده جنوبنا العزيز من توترات أمنية، قد يتّسع نطاقها مع آلة القتل الإسرائيلية باتّجاه أهلنا هناك، مع الخوف من امتدادها ليشمل كافّة الأراضي اللبنانية. ناهيكم عن حالة الشعب السوري الصعبة، نتيجة الحرب الضروس، منذ ما يزيد عن عشر سنوات. أمام كلّ هذه المشاهد والوقائع، من الطبيعي أن يسأل الناس عمّا هو أهم: تاريخ كنيسة أنطاكية أم مستقبل شعب أنطاكية، وشعوب هذه المنطقة عمومًا؟.
أتى كلام غبطة البطريرك يازجي، خلال حفل الافتتاح، كردّ مباشر على أيّ تساؤل، ففنّد أهداف المؤتمر البنّاءة وأهميتها، وتطرّق إلى أوضاع المنطقة بجرأة وموضوعية، ووضع الإصبع على الجرح ليطيّبه، مع مسلّمات أساسية لمستقبل واعد، على كافة الصعد والمستويات.
اعتلى غبطته، بحضور مرجعيات سياسية وروحية ورسمية، وفعاليات متعددة، منبر جامعة البلمند، التي تضم طلّابًا من كل لبنان، ومن كل الطوائف والأديان، ونطق بكلمات للتاريخ، نابعة من عمق اللاهوت الأرثوذكسي والعقيدة. حيث انطلق من مفهوم أن المسيحية ديانة المحبة، معنى ذلك أن أمور الكنيسة تُحل بالمحبة، ولا تقوم على دستور، بالمعنى القانوني للكلمة، وأنّ الآمر يأمر بمحبة، والمؤمن يطيع هذه المحبة. انطلق البطريرك يوحنا العاشر من مفهوم لاهوتي للكنيسة، التي لا تحمل شكلًا أو صورة. ليس لها شكل لأنّها حركة. هي حركة الله نحو الانسان وحركة الأخوة نحو بعضهم البعض.
أمانته للكنيسة استمدّها من العنصرة، منذ أن نشأت الكنيسة، "وكانت تنعم بالسلام في جميع اليهودية والجليل والسامرة. وكانت تنشأ وتسير على مخافة الرب، وتنمو بتأييد الروح القدس".
من هنا جاء حديثه عن وجع أهلنا في فلسطين، والظلم الذي يطالهم. لم ينسَ سوريا وشعبها، والثمن الذي يدفعونه غاليًا جرّاء الحرب والحصار المفروضبن عليهم، وتطرّق إلى أمر المخطوفين، وفي طليعتهم مطرانا حلب. على الصعيد المحلّي ناشد، غبطته، ضمير النواب في لبنان للمسارعة إلى انتخاب رئيس للبلاد، وإعادة حقوق الناس الذين نُهبت أموالهم.
طبيعي أن يتطرّق في كلمته إلى موضوع العلاقات بين الكنائس الأرثوذكسية، والعلاقات المسكونية، وتوحيد عيد الفصح، وكل التطورات التي حدثت لتاريخه. أضاء بشكل واضح، وجريء على جرح الانشقاقات الكنسية الأنطاكية، ولا سيما موضوع كنيسة الروم الكاثوليك، والقرارات المهمّة التي اتخذت، فيما مضى، عبر لقاءات مشتركة، أدّت إلى حلحلة كثير من التباينات، وتبقى بعض الأمور عالقة يأتي حلّها ومعالجتها بالمحبة والحكمة والانفتاح الأخوي، وبلياقة وترتيب، وبتواضع كبير.
أضاء غبطته، أيضًا، على التطوّر الايجابي الذي حصل مع كنيسة السريان الأرثوذكس، ولم ينسَ أهمية عيشنا للمواطنة، مسلمين ومسيحيين، في لبنان والمنطقة عمومًا، وقد توّج غبطته نص الكلمة ببشرى إعلان قداسة الأبوين خشّة، ليأتي هذا المؤتمر محاطًا بعطر القداسة.
كلام السيّد البطريرك، سيد الكلام، أقولها من منطلق متابعتي لكلمته العميقة والمهمّة، التي من الأجدى أن يقرأها كلّ متابع ودارس ومهتم، بموضوعية وتعقّل ومنطق. فهي تشكّل خارطة طريق، لمستقبل واعد وغَدٍ مشرق، يسوده العدل والمساواة، والأخوّة والتضامن، والأمان والسلام، لكنيسة انطاكية وكافة المواطنين في هذه البقعة.
البطريرك يازجي وريث كوكبة من القدّيسين الانطاكيين، لذا لا بد ان تلمس بكلمته، ذاك الأسقف الذي يختفي وراء النعمة، التي تنتقل بقوّتها وقوّة الصلاة التي في الجماعة. لمست عمق المسؤولية الملقاة على منكبيه، فهو، مع السادة أعضاء المجمع المقدّس، حاملٌ همّ كنيسة انطاكية، بشرًا وحجرًا، رغم بعض الأصوات والتباينات والإنتقادات، التي تصدح من هنا وهناك، لأنّه العالٍم: "أنّ مَن أراد أن يكون كبيرًا فيكم، فليكن لكم خادمًا. ومَن أراد أن يكون الأول فيكم، فليكن لأجمعكم عبدًا. لأنّ ابن الانسان لم يأتِ ليُخدَم، بل ليَخدُمَ ويفدي بنفسه جماعة الناس".
قد تكون هذه الأصوات، إذا هدفت للبنيان، دليل عافية، للتذكير بعدم التفرّد والتسلّط في الكنيسة، كما علّمنا المطران جورج خضر. أمّا إذا كان هدفها فقط الاصطياد في الماء العكر، فلن يكون لها مكان عند المؤمنين والفاهمين والعارفين، والغيارى الحقيقيين على مصلحة الكنيسة وأبنائها.
هنيئًا لكنيسة إنطاكية العظمى، التي على الرغم من جراحها، استطاعت أن تلج بنا من خلال هذا المؤتمر، إلى عمق الأزمات، وأن تمنحنا بارقة أمل بأن الكنيسة "تحيا وتتحرّك وتوجد"، بنعمة الروح القدس والمحبة، علّها بذلك تستأصل الأمراض من جذورها، لأجل أن تكون الكنيسة واحدة "عروسا منزّهة عن كلّ عيب".
مستقبل كنيسة أنطاكية لا بدّ أن ينطلق من أخطاء الماضي، وبنقد ذاتي أولًا، حتى نتجنّب اقتراف الأخطاء مستقبلًا، تفتح جراحًا لا يمكن دملها بسهولة، وتكون سببًا لانشقاقات جديدة. شكرًا للمنارة البلمنديّة، أعني معهد القدّيس يوحنا الدمشقي اللاهوتي في جامعة البلمند العريقة، ولكلّ القيّمين الذين سهروا على حسن سير أعمال هذا المؤتمر. راجيًا الله أن تكون توصياته ونتائجه لخير الإنسان وخير الكنيسة وخير أبناء هذه المنطقة، والربّ محب ومستجيب.