أدرك رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو منذ ان شاهد ما حصل في 7 تشرين الاول الفائت، ان ايامه في الحياة العامة باتت معدودة، وان حظوظه في الخروج بسلام وراحة لقضاء ما تبقى من حياته بعيداً عن الحياة السياسية اصبحت معدومة، لذلك كان من اكبرالمتحمّسين للذهاب نحو خيار اغراق المنطقة بحرب اقليمية-دولية، فيخرج من هذا الكابوس بأقلّ قدر ممكن من الخسائر على الصعيد الشخصي.
ولكن، ما حصل هو ان العالم (وفي مقدمه الولايات المتحدة الأميركية) القى بنفسه على رئيس الوزراء ومعاونيه في ما بدا انه دعم لامتناهي له، غير انّ الحقيقة تكمن في انّ احداً لا يرغب في التواصل معه، واكبر دليل على ذلك التوتر الكبير الذي كان سائداً بينه وبين الرئيس الاميركي الحالي جو بايدن، قبل ان يصبح التواصل بين الرجلين شبه يومي بعد عملية "طوفان الاقصى".
ومع مرور الايام، بدا ان حبال النجاة التي القيت لانقاذ نتانياهو، كانت وسيلة لا بد منها للسيطرة عليه، وها هي تتحوّل الى حبال تضيق على عنقه، والدليل على ذلك التغيير الكبير في المواقف من بايدن والمسؤولين الاميركيين والغربيين، اذ بتنا نسمع للمرة الاولى في التاريخ اصواتاً تندّد بالدعم المطلق الاعمى لاسرائيل واجرامها وتصرفاتها، وتطالب بوقف المجازر المرتكبة بحق النساء والاطفال والشيوخ في غزة، وها هو الداخل الاسرائيلي ايضاً بدأ بالتحرك بعد ان وضع جانباً الخلافات السياسية لفترة من الوقت، وصدح بالامس صوت زعيم المعارضة يائير لابيد الذي طالب باقالة نتانياهو وتشكيل حكومة جديدة (اللافت انه لم يطالب برئاستها بل بتعيين شخص من حزب الليكود الذي ينتمي اليه نتانياهو)، مشدداً على ان رئيس الوزراء الحالي لم يعد يحظى بثقة الاسرائيليين. وقد تسلح لابيد بموقفه هذا انطلاقاً من التظاهرات الحاشدة لأهالي الأسرى الاسرائيليين لدى "حماس" الذين اعربوا عن غضبهم من نتانياهو، اضافة الى المواقف الدوليّة التي تغيّرت بشكل جذري تجاه الاعمال الاسرائيليّة والتي كان اكثرها حدّة موقف الامين العام للامم المتحدة والرئيس التركي.
كلّما اقتربت ساعة التهدئة والتسوية في غزة، كلما دنت ساعة الحسم بالنسبة الى نتانياهو، لذلك تجهد واشنطن ومعها دول الغرب لتفادي اي "خطوة جنونيّة" قد يقوم بها، لان تداعياتها لن تفيد سوى مصلحته الشخصيّة فيما ستودي بالجميع الى الهاوية. اما تحديد وزير الخارجية الاسرائيلي إيلي كوهين فترة اسبوعين او ثلاثة قبل ان تؤدي الضغوط الدولية على إسرائيل غايتها، فهو بمثابة جرس انذار للحكومة الإسرائيلية الحالية ككل، لذلك يتوقع ان تزداد عمليات الاجرام بحق الفلسطينيين طوال هذه الفترة، مع احداث خروقات على الصعيد الانساني من خلال ادخال كميات قليلة من المواد الاساسيّة، فيما اصبح واضحاً ان الاهداف التي وضعها نتانياهو وحكومته بالقضاء على "حماس" والتأكّد من عدم تكرار ما حصل في 7 تشرين الاول الفائت، كانت مجرّد كلام يبتعد عن الواقع.
وبالتالي، يمكن القول ان "حماس" نجحت في اغراق رئيس الوزراء الاسرائيلي، ولكن الثمن كان باهظاً جداً، لا بل كارثياً بكل ما للكلمة من معنى، اما المكسب الاكبر للحركة فهو انها استطاعت اعادة اقامة القضيّة الفلسطينية من القبور، واعادت الحراراة الى الحديث عن حلّ الدولتين، في انتظار ما ستؤول اليه الاوضاع خلال الايام المقبلة، بعد ان تتسارع الاوراق في التساقط من روزنامة الحياة السياسية لنتانياهو، اما الغريب واللافت فكان صمود مسار التطبيع القائم بين الدول العربية واسرائيل والذي من المتوقع ان يستمر بزخم في مرحلة ما بعده.