بيروت أم الشرائع. عندما كان الغرب مستنقعات وشعوبًا بربريّة كانت بيروت تحتضن اول كلّية حقوق في العالم. ويوم غد سيحتضن قصر العدل في بيروت عرسًا إنتخابيًا، لاختيار أعضاء لمجلس نقابة المحامين في بيروت، ومن ثم انتخاب النقيب.
هذه النقابة، نعتبرها أمّ النقابات في لبنان، لأن من صلب وظيفتها ورسالتها تحقيق العدالة وإبداء الآراء القانونيّة والدفاع عن الحقوق وتبيان الحقّ من الباطل.
نقابة نشأت منذ العام 1919، أي قبل عام من إعلان دولة لبنان الكبير، وقبل الاستقلال الذي سنعيّد لذكراه الثمانين، وما زالت في عزّ عطائها وريادتها ومثابرتها في تحقيق العدالة، ويصحّ فيها قول سفر المزامير: "الَّذِي يُشْبعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ، فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ" (مزمور 103: 5). نحن نشكر الله دائمًا فهو صانع خيرات. فالخطيئة تسببّ الشيخوخة الروحيّة للإنسان، وحين يغفر الله يَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُ النفس، وتطير وتحلّق في السماء مثل النسر. هذه النقابة لم تعرف الشيخوخة لأنها ظلّت بالحدّ الأدنى، بمنأى عن مخالب الخطايا السياسية في لبنان.
حاول سياسيو هذا البلد أن يغرقوا النقابة في مستنقع المهاترات والتجاذبات السياسيّة، إلا أنّها حصّنت ذاتها وقوّت مناعتها لئلا تُصاب بعدوى الفساد السياسي المستشري، الذي ضرب وطننا على كافة الصعد والمستويات. إنطلاقًا من حرصي على هذه النقابة ودورها ورسالتها، سمحت لنفسي الكتابة فيما خصّها، لما لها من دور كبير على الصعيد الانسانيّ والوطنيّ. كنت، وما زلت اسمع، أن انتخابات نقابة المحامين، لا تدخل فيها الاصطفافات السياسيّة والحزّبية والطائفية بشكل مباشر، حيث تتغلب المهنية على غيرها من الاصطفافات. من هنا، على مجلس نقابة المحامين، الذين سيحالفهم الفوز غدًا، أن يسعوا، نقيبًا وأعضاء، إلى ضرورة تجديد العهد والوعد، على رسالة المهنة والدفاع عن الحقوق والحرّيات المؤتمنين عليها.
المحامون مدعوون إلى النضال من أجل نصرة المظلومين، ومساعدة المسجونين قسرًا، والوقوف إلى جانب المعنَّفين لأي فئة انتموا، كبارًا كانوا أم صغارًا، والنضال من أجل المعذَّبين والمهمَّشين والمستضعَفين، واعادة حقوق المودعين المنهوبة، والوقوف إلى جانب أهالي ضحايا تفجير المرفأ وتحقيق العدالة المطلوبة. كما هم مدعوون إلى تحقيق عدالة إجتماعية حقيقيّة، وتبنّي قانون مدني عصري يراعي الخصوصية اللبنانية من ناحية، وينقلنا إلى مستقبل راقٍ، يحدّ من التناطح الطائفي والمذهبي من ناحية ثانية.
أشكر الله على كثر من المحامين اليوم، الذين أعرفهم، يشعرون بألم ووجع الناس وضيقاتهم، ويتطوّعون بشكل مجّاني للوقوف إلى جانب المتضرّرين من أصحاب الحقّ، سواء في المحاكم المدنيّة أو الروحيّة.
المحاماة ليست مهنة، إنما رسالة سامية، ومن واجب المحامين بعد قَسم اليمين تحقيق العدل أمام القضاء، الذي من المفترض أن يكون بدوره عادلًا. لذا على كلّ محامٍ أن يضع نصب عينيه عدالة الله، ويتذكّر أنه يرى الإنسان كما هو، ولا ينسب إليه في دينونته ما ليس فيه.
هو مدعو أن يعدل بين الناس إذا احتكموا إليه، وألا يحابي الوجوه، لمنافعه الشخصيّة. والعدل الكبير لا يستقيم إلا بنقابة تستعيد دورها بقوّة وجرأة وتفانٍ.
ما شدّني إلى كتابة هذه الأسطر، جمهور المحامين الملفت، والكلمات التي ألقيت، في وداع علمٍ من أعلام الحقوق والقانون، وأصحاب النبل والأخلاق الحميدة والتاريخ العريق، أعني به المغفور له الوزير عصام الخوري، نقيب المحامين والوزير السابق. هذا الرجل الوطني بامتياز، وصاحب السيرة الحقوقيّة المميّزة، وحامل لواء استقامة الرأي عن استحقاق، "والآدميّ" كما يصفه عارفوه. لقد كان لي الفرصة أن نتهاتف منذ مدّة ليست ببعيدة، عبر الصديق العزيز، المحامي فادي المصري، وكان حديثًا شيّقًا بأبعاد روحيّة، ورعائية، وقانونية، ووطنية وإعلامية، وقد سألني عن أحوال مدينة الشويفات وأهلها والرعية. كان هذا الإتصال بمثابة وداع لشخص نُقرّ ونعترف بمكانته وسيرته ومناقبيته وإنجازاته. هذا ما نحن بحاجة إليه اليوم في لبنان: قامات حقوقيّة وطنيّة، على مثال النقيب عصام الخوري، رحمه الله.
إنتخابات الغد فرصة ليتجدد شباب النقابة، ويعود نسرها ليحلّق عاليًا. "فنقابة المحامين لا تحتاج قائدًا حزبيًّا، بل نقيبًا لديه القدّرة والزخم للحفاظ على النقابة والمحامين والعمل النقابي".