إعداد أربع ندوات شارك بها ستّة عشر متحدّثا وخبيرا في مواضيع فنيّة وثقافيّة تُلهم الحضور وتثير في نفوسهم تساؤلات وتجيبهم عن أسئلة تعترض تفكيرهم، ليس أمرًا عاديّا، ولا يمكن أن يقوم به كثر؛ هو فعل أكاديميّ تتميّز به فعاليات دوليّة تقام في لبنان، اعتادت على القيام بها مؤسسة واحدة ولدت من رحم التربية اسمها اديوسيتي EDUCITY؛ الندوات التي حضرها العديد من المهتمين والتي كانت بالموازاة مع معرض الفنّ العربي ARAB ART FAIR الذي يحدث للعام الثالث، ويسلّط الضوء على فنون مختلفة في الرسم، والنحت، والتصوير، وفن الخط، وفنون أخرى في حياكة النسيج والموزاييك شاركت أيضًا هذا العام.
وبعدما شهدنا على فعاليات اليومين الأولين، زرنا معرض الفنّ العربي في اليوم الثالث للقاء عشرات الفنانين المشاركين واجراء حوارات معهم في الفنّ، كما لملاقاة جمهور عريض من المثقفين والكتّاب والفنانين الزائرين. ثم أتت أعمال الندوات حيث شهدنا على إقامة ندوة: "الفنّ والتربية" والتي بحثت في إشكاليّة: هل تعليم الفنون يساهم في تطوير قدرات الإنسان؟ والتي أدارتها الصحافية نائلة تويني من جريدة "النهار" العريقة والتي استهلّت كلمتها من كلام ونستون تشرشل الذي طُلب منه مالا لقضايا فنيّة في زمن الحرب العالميّة الثانية، فموّل ذلك وعندما جوبه باعتراضات أجابهم: لماذا نحارب أليس للإنسان!؟ مهما كانت الظروف سيئة فان الاهتمام بالثقافة بالفنّ، دائما يجدر أن يكون أولويّة. (...) ثم تحدّث الأكاديمي والمسرحي فائق حميصي عن أهمية المسرح في تطوير قدرات الطلاب: "المسرح في المدرسة هو مسرح بالأطفال، وليس للأطفال، والإدارة التربوية تقوم بعملية التوجيه لهم. (...) والمسرح المدرسي هدفه دفع الطالب لتفجير طاقاته، والتعبير عن نفسه من خلال المسرح." (...) وتحدّث عن إعداد فريق من الأساتذة لمنهاج تعليم المسرح في المدارس، لا يتطلّب أيّ معدات أو تقنيات وليس ذو كلفة على عاتق المدرسة ولا وزارة التربية، وجرى اقراره في أيار 1997 بموجب مرسوم، إلا أن وزير التربية آنذاك عمل على تأجيل تنفيذه وهو الأمر القائم لغاية يومنا هذا، حيث لا يوجد منهاج رسمي لتعليم المسرح في المدرسة. ثم تحدثت السيدة هبة القوّاص رئيسة المعهد العالي لتعليم الموسيقى الكونسرفاتوار عن عودة التعليم الحضوري في معاهد التعليم الموسيقي خلال العام الدراسي الجاري، كما عودة الأوركسترا إلى عملها وحفلاتها كما كان عليه الحال عام 2019 ما قبل الأزمة الاقتصادية. ثم تحدثت عن دور الموسيقى في تطوير قدرات الإنسان: "حيث يساهم تعليم العزف على الآلات الموسيقيّة منذ سنّ مبكرة في تطوير التفكير الإبداعي، ويساهم في تعزيز التفكير المنطقي، والتعبير عن العواطف، والقدرة على التركيز. (...) كما يساهم تعليم الموسيقى في زيادة قدرة الطلاب على تعلّم المواد الأخرى. (...)."
وتتابع حضور الزوّار إلى معرض الفنّ العربي في يومه الرابع والأخير، وشهد ندوة تحت عنوان: "الفنّ والأيقونة" والتي قدّمها وأدارها رئيس تحرير "النشرة" الإلكترونيّة، أستاذ جوزيف سمعان: "يحتلّ فن كتابة الأيقونات مكانة كبيرة في التقاليد الغنية للطوائف المسيحية حول العالم. إنه شكل من أشكال الفن المقدّس الذي مورِسَ لقرون طويلة، حيث يعتمد على التقاط جوهر الإيمان وتوفير تمثيل بصري للشخصيات المقدّسة والأحداث. ومع وجود مدارس عديدة مكرّسة لتعليم هذا الفن، فإن فنّ كتابة الأيقونات ما زال مزدهرًا ومُلهمًا للفنانين والمؤمنين على حدّ سواء. فن الكتابة الأيقونية، أو رسم الصور الدينية كما يحلو للبعض تسميته، كان جزءًا لا يتجزّأ منذ الأيام الأولى للمسيحية. الأيقونات ليست مجرد أشياء زخرفية؛ بل تُعتبر نافذَة إلى العالم غير المنظور الى العالم الإلهي". ثم جرى تقديم المتحدثين، وبدأت الندوة بسرد لتاريخ الأيقونة مع الأب نداء إبراهيم المخلصي، مؤسس ومدير المعهد المخلصي للأيقونة: "لم تتشكّل الإيقونة وتأخذ موقعها في قلب الكنيسة بين ليلة وضحاها، بل هي وليدة ثقافات قديمة سبقت المسيحيّة وأعطتها من تراثها وفنونها، فتبنتَها الكنيسة وأعطتها بُعد مسيحي. أهم الروافد التي ساهمت في تكوين الأيقونة، الصور المأتميّة في واحة الفيّوم في مصر القديمة؛ حيث عثر علماء الأثار على مئات اللوحات الجنائزية التي كانت توضع على جثمان المتوفي لتُشير الى هويته (...) الأيقونات الأولى في تاريخ الكنيسة اعتمدت نفس أسلوب صور الفيوم، إن بوضعية الوجوه، أو بالتقنية نفسها، ولنا مثال على ذلك أيقونات دير القديسة كاترين في سيناء–مصر. مصدر آخر ساهم في تشكيل هوية الأيقونة، هو شواهد القبور في مدينة تدمر السوريّة. (...) خلاصة الموضوع أن الأيقونة المسيحيّة بَنَت هيكلها الفني مما سبقها من فنون وأعطتها بُعد تعليميّ يخدم رسالتها في العالم".
ثم تحدّث الأب اثناسيوس شهوان الأرثوذكسي وهو باحث في فنّ الأيقونة الروميّة عن لاهوت الأيقونة: "لا يوجد شعب أو حضارة دون عبادة وفن، وهذا يتعلّق بالوجودية. (...) وصحيح أن الأناجيل الأربعة لم يعطونا أي وصف "فيزيائي" عن الرب، إلا أن هذا الأمر لم يمنع الجماعات المسيحية الأولى من ترجمة تجسد الرب وصيرورته جسدًا وبقائه إلهًا، لم يمنعهم من تصوير وجه الرب. وتباعًا والدة الإله مريم والقديسين، ومشاهد إنجيلية من العهدين القديم والجديد، وأحداث خلاصيه أخرى". (...) هنا لا بد من ذكر أن يسوع صُوّر دون لحية وشعره قصير مجعّد بحسب الفن الروماني، وكان يرتدي رداءً رومانيًّا. (...) ابتداء من القرن الثالث–الرابع بداْنا نشاهد يسوع مع لحية بحسب الفن الشرقي وطابعه، الذي يراه رجلًا حكيمًا ومجيدًا وشعره طويل وعينين سوداء اللون (الطابع السوري) (...) في العام 691 -692م انعقد مجمع في القسطنطينية ويدعى المجمع الخامس-السادس، أهمية هذا المجمع، انها المرَّة الأولى الَّتي يقوم فيها مجمع بتأكيد الارتباط الوثيق بين العقيدة والأيقونة، مع العلم أنَّ هناك كتابات مِن القرن الرابع الميلاديِّ تشرح أهمِّيَّة وجود الجداريَّات والأيقونات في الكنائس كمُساعد للتعليم وتأكيد للتجسُّد."
ثمّ تحدّث الأب شربل بو عبود مدير المعهد الانطوني الماروني ونقيب الايقونوغرافيين في لبنان: "ان الأيقونة هي كلمة ذات أصل يوناني تعني الصورة أو المثال. وفي الاصطلاح المسيحي هي صورة تمثل شخصاً أو مشهداً مقدساً مرسومة على الخشب أو الجدار وفقاً لأساليب وتقاليد خاصة تُظهر حالة الشخص المرسوم فيها وهذا يفرض على الفنان أن يطّلع تمام الاطلاع على سيرة الشخص المرسوم فيها، وعلى أحداث الكتاب المقدس وتعاليمه. وبهذا التعريف ليست كل صورة أيقونة. (...) لقراءة الأيقونة ثلاثة ابعاد: اولا القراءة الفنية اي ماذا يوجد عناصر في داخلها، ثانيةً القراءة اللاهوتية وهنا لا بد من توضيح انه يجب قراءة الايقونة من خلال الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة وغيرها حيث من خلال القراءة الروحية او الصلاة يكتشف المؤمن او قارئ الايقونة صلاته وايمانه."
انتهت دورة العام الثالث من معرض الفنّ العربي ARAB ART FAIR على أمل أن تشهد دورات الأعوام المقبلة سكينة وطمأنينة في لبنان تساعد في حضور فنانين عرب كثر إليه لعرض أعمالهم على الآلاف من محبّي الفنون، كما أن تكون مناسبة للزوّار لاكتشاف آخر الأعمال الفنيّة المنفّذة، ومساحة للحوار ولتشبيك العلاقات بين الفنانين والمثقفين والمقتنين العرب، كما مناسبة للأهالي والمدارس باطلاع أبنائهم على الفنون المختلفة، ليصبح لديهم ثقافة فنيّة تنمو معهم عامًا بعد آخر.