أخيرًا، وبعد 48 يومًا من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كانت حافلة بالمجازر والجرائم التي كادت تصل حدّ "الإبادة" بحقّ الشعب الفلسطيني، ولا سيّما المدنيّين، وبشكل خاص النساء والأطفال، تمّ التوصّل إلى هدنة إنسانيّة بوساطة قطرية ومصرية، أعادت الهدوء "النسبيّ والحَذِر" إلى القطاع المُحاصَر، ولو لفترة "مؤقتة" حُدّدت بأربعة أيام قابلة للتمديد، وسط آمال بأن تفتح الباب على "تسوية شاملة" تنهي الحرب عن بكرة أبيها.
ومع أنّ اتفاق الهدنة الإنسانية في قطاع غزة، الذي تضمّن "جولة أولى" من تبادل الأسرى، في إطار "صفقة" يُعتقَد أنّها ستُنفّذ على مراحل، لم يأتِ على ذكر "جبهة لبنان" من قريب أو من بعيد، فإنّ كل المؤشرات دلّت على أنّ هدنة غزة "تسري" على جنوب لبنان، بعدما كانت الأيام الأخيرة شهدت تصاعدًا لافتًا في حجم ونوع العمليات العسكرية، سواء من جانب "حزب الله"، أو إسرائيل التي خرقت كلّ "قواعد الاشتباك" المعمول بها ضمنًا.
وإذا كانت الساعات الأولى من الهدنة كرّست هذا الاعتقاد، بعدما ساد الهدوء الحَذِر في جنوب لبنان بموازاة الهدوء في غزة، فإنّ علامات استفهام تُطرَح حول احتمالات "صمود" هذه الهدنة في المرحلة المقبلة، وما إذا كان يمكن أن تتحوّل إلى "وقف دائم لإطلاق النار"، وبالتالي تنهي "شبح" الحرب المسيطر على البلاد منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، ولكن أيضًا حول مرحلة "ما بعد الهدنة"، بل ما بعد انتهاء "حرب غزة"، لبنانيًا هذه المرّة.
في المبدأ، يقول العارفون إنّ "جبهة لبنان" باتت مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بـ"جبهة غزة"، ولا سيّما أنّها صُنّفت في أدبيّات "حزب الله" نفسه "جبهة مساندة" لغزّة، كما أعلن أمينه العام السيد حسن نصر الله في إطلالتيه الأخيرتين، وبالتالي فإنّ الطبيعيّ أن تنعكس "الهدنة" في غزة على المناطق الحدوديّة في جنوب لبنان، إلا إذا حصل "خرق ما" من شأنه تغيير "قواعد اللعبة"، ولو كان "طابور خامس" من يقف خلفه، بحسب بعض التقديرات.
بالنسبة إلى "حزب الله"، يقول العارفون إنّ قيادته كانت واضحة بأنّ الهدف من إشعال الجبهة كان "مساندة" أهل غزة في ضوء الحرب الوحشيّة التي تُشَنّ عليهم، وبالتالي "إلهاء" جزء من الجيش الإسرائيلي في "الجبهة الشمالية"، بدل تفرّغهم بالكامل لغزة، تطبيقًا لنظرية "وحدة الساحات" ولو بصورة نسبيّة، ما يعني أنّ "لا جدوى" من إشعال الجبهة من جديد، طالما أنّ الجانب الإسرائيلي "ملتزم" بالهدنة وبنودها في غزة.
ومع أنّ المعطيات المتوافرة تؤكد أن "حزب الله" لم يكن جزءًا من المفاوضات حول الهدنة، كما لم يكن جزءًا من عملية "طوفان الأقصى" في المقام الأول، فإنّ العارفين يؤكدون أنّه ليس "معنيًا" بتخريب هذه الهدنة بشكل أو بآخر، حتى لو كانت هناك وجهة نظر غير خافية تعتبر أنّ المعركة باتت أكبر من غزة، خصوصًا بعد الغارة الإسرائيلية على قرية بيت حانون، والتي اعتُبِرت تصعيدًا خطيرًا وتجاوزًا لكلّ قواعد الاشتباك.
وعلى مستوى إسرائيل، لا يُعتقَد أنّ الموقف مختلف جذريًا، بعيدًا عن بعض الآراء "المتطرفة" في الداخل، والتي تدعو إلى "التفرّغ لحزب الله" في هذه المرحلة، إذ يعتقد المسؤولون الإسرائيليون أن فتح "جبهة لبنان" على مصراعيها ليس في مصلحتهم اليوم، ولا سيما أنّ "حرب غزة لم تنتهِ بعد" عمليًا بالنسبة إليهم، فضلاً عن كونهم لم يحقّقوا ولو جزءًا يسيرًا من الأهداف التي أعلنوها، وهم يدركون أنّ ما ينتظرهم في لبنان أكثر صعوبة.
لا يعني ما تقدّم أنّ "شبح الحرب" في لبنان قد زال كليًا، فالأمور مرهونة بحسب ما يقول العارفون، بنضوج معطيات مرحلة "ما بعد الهدنة" في غزة، وبالتالي بطبيعة المفاوضات التي يُعتقَد أنّها ستتكثّف خلالها، فإذا عادت الأمور إلى ما كانت عليه، أو إلى ما هو "أكثر دموية" كما يتوعّد بعض الإسرائيليّين، ستعود "الجبهة اللبنانية" معها لسابق عهدها، وإذا تمّ التوصّل إلى "تسوية"، فالأكيد أنّ "حزب الله" سيكون جزءًا منها هذه المرّة.
بين هذين الاحتمالين، تتفاوت التقديرات والتوقعات، وربما التكهّنات، إذ يعتقد كثيرون أنّ التصعيد في غزة سيسود من جديد بعد انقضاء مرحلة الهدنة، سواء كانت لأربعة أيام، أو زادت عن ذلك قليلاً، وذلك للكثير من الأسباب على رأسها، أنّ انتهاء الحرب بهذا الشكل لا يمثّل سوى "هزيمة كاملة الأوصاف" بالنسبة للحكومة الإسرائيلية، التي لم تنجح في تحقيق أيّ "إنجاز" تستطيع أن تبيعه للرأي العام، بعيدًا عن قتلها الأعمى للنساء والأطفال.
ويوضح المتابعون أنّ إسرائيل قدّمت "تنازلات" لا تُعَدّ ولا تُحصى للوصول إلى الهدنة، ما يجعل من الصعب اعتبارها فعلاً "النهاية"، فعنوان الحرب بالنسبة إليها كان "القضاء على حركة حماس"، بل إنّها فتحت مع الأميركيين نقاش "اليوم التالي" للحرب، بمعنى من سيحكم قطاع غزة بعد حماس، وقالت إنّها لن تبحث في أيّ هدنة أو تبادل للأسرى قبل تحقيق هذا الهدف، وهو ما لم يحصل كما يدرك القاصي والداني.
لكن، في مقابل هذا الرأي، ثمّة رأي آخر يقول إنّ الحرب "استنفدت" القدرات الإسرائيلية، بل إنّ "أضرارها" باتت تفوق "منافعها"، خصوصًا مع بدء تغيّر المزاج العالمي الذي كان "منحازًا" لإسرائيل، لكنّه بدأ يرسم "شكوكًا" حول البروباغندا التي تروّج لها، بعدما تبيّن "زيف" الكثير من الادعاءات التي تسوقها، خصوصًا بعد اقتحام المستشفيات وقصفها بلا حسيب أو رقيب، ما وضع حلفاءها في موقف "محرج" إلى حدّ بعيد.
ويعتقد أصحاب هذا الرأي أنّه خلافًا للاعتقاد القائل بأنّ إسرائيل تستعدّ لجولة أكثر عنفًا ودموية من حربها على الفلسطينيين، لتحقيق هدفها المُعلَن من الحرب، وهو إنهاء حركة حماس على الأقل كقوة عسكرية وسياسية قادرة على إدارة قطاع غزة، قد تكون في الواقع تبحث عن "مَخرَج ملائم" يسمح لها بالخروج من "مستنقع" هذه الحرب بأقلّ الأضرار الممكنة، وهو ما ستسعى لتحقيقه في أيام الهدنة، أو ربما المفاوضات.
في النتيجة، لا شكّ أنّ الهدنة الإنسانية في قطاع غزة قد تكون أكثر من مهمّة، بل إنّها تأخّرت كثيرًا، بعدما أضحت فاتورة الحرب أكثر من "ثقيلة"، وحتى في لبنان، الذي لا يزال البعض يعتقد أنه "بمنأى" عن هذه الحرب. لكن ما لا شكّ فيه أيضًا أنّ مرحلة "ما بعد الهدنة" تبقى غير واضحة المعالم، فكما أنّها تشكّل "فرصة" لتكثيف المفاوضات للوصول إلى تسوية، قد تكون "فرصة" أيضًا لتحصين التموضعات وتثبيت التكتيكات لمزيد من الصمود والمواجهة!.