أعيادنا مسبحة صلاة مترابطة فيما بينها، يكمِّلُ بعضها بعضًا، محورُها واحد ألا وهو الربُّ يسوع المسيح الَّذي صار إنسانًا من أجلنا، وطبعًا بقي إلهًا.
في الحادي والعشرين من شهر تشرين الثاني، تعيِّد الكنيسة لدخول سيِّدتنا والدة الإله إلى الهيكل. وكنَّا قد بدأنا صوم عيد الميلاد المجيد في الخامس عشر من الشهر نفسه. هذا تداخل مبارك ومفعم باللاهوت، وخسارة كبيرة لنا ألَّا ندرك معانيه.
الترابط شامل، عقائديٌّ وليتورجيٌّ، أي إدراك وصلاة. صحيح أنَّ العيد يبدو مرتبطًا بدخول مريم إلى الهيكل، ولكن هي تدخل إلى الهيكل الحجريِّ لتصبح الهيكل الحقيقيَّ للمخلِّص. إذ بِحَبَلِها لاحقًا بالروحِ القُدُسِ ستصبح أوَّلَ هيكلٍ بشريٍّ للأُلُوهَةِ. بتواضعها وإصغائها لكلمة الله وعشقها للقدُّوس ستكون نموذجًا حيًّا ومثالًا لنا لنحذو حَذْوَها، ونحمل الربَّ في أعماق قلوبنا، ونقدِّمه للآخرين منشدين: «تعظِّم نفسي الربَّ، وتبتهج روحي بالله مخلِّصي» (لوقا 1: 46-47).
فما نعيِّد له في هذ العيد هو من ضمن التدبير الإلهيِّ الخلاصيِّ الَّذي أعدَّهُ الله لنا. وبالتالي مَن نعيِّد له في العمق هو الربُّ يسوع المسيح الَّذي سيتجسَّد منها.
هنا تحديدًا تأتي الليتورجيَّة لتعلن هذا الأمر العظيم، إذ في سحر عيد دخول والدة الإله إلى الهيكل ننشد للمرَّة الأولى قطعة ميلاديَّة صرفًا وهي: «المسيح وُلِدَ فمجِّدوه، المسيح أتى من السماوات فاستقبلوه، المسيح على الأرض فارتفعوا، رتِّلي للربِّ أيَّتُها الأرض كلُّها ويا شعوب سبِّحوه بابتهاجٍ لأنَّه قد تمجَّد».
هذا يأتي في سياق ما بدأت الكنيسة ترتيله في اليوم الثامن من شهر تشرين الثاني، أي قطع صلاة (كاطافاسيَّات) مختصَّة بعيد الدخول، منها: «أيَّتُها البَتولُ الَّتي لمْ تَعرف زواجًا، إنَّ البرايا بأسرها قد انذَهلتْ من مَجدك الإلَهيِّ لأنَّك حملت في حشاكِ إلهَ الكُلِّ وَوَلدْتِ الابنَ غير المَحدود في زَمن، ومَنحتِ الخلاص لجميع الَّذينَ يُسبِّحونَكِ».
المحور الإلهيُّ واضح تمام الوضوح وجليٌّ في الصلوات، فهدف مسيرتنا لُقيا الربِّ والاتِّحاد به بحفاوة ونقاوة. بحفاوةٍ لاشتياقنا إليه، وبنقاوةٍ أي بتوبةٍ صادقة وولادةٍ جديدة بالربِّ.
هذه المسيرة الخلاصيَّة تُظهرها أيقونة العيد، فنشاهد فيها مشهدَين رئيسَين.
الأوَّلُ، الكاهِنُ زكريَّا يستقبلُ مريمَ، يقابله والداها يُواكيمُ وحنَّة. وخلف الوالدين موكب من العذارى.
فمع كلٍّ من الأشخاص في المشهد مسيرة.
الوالدان صاما وصلَّيا ليرفع الربُّ عنهما عار العقر، كما كان يعتقد في المجتمع اليهوديِّ، إذ العيلة العاقرة محرومة من أن يجيء منها المسيح المنتظر. وقد وعد يواكيم وحنَّة الربَّ بأن يقدِّما مولودهما له، وها هما ينفِّذان وعدَهما. وبهذا يكونان سارا وعبرا من حالة العقم إلى حالة الخصوبة والحياة. لهذا نراهما يُقدِّمان طفلتهما ذات الثلاث سنوات كقربانٍ مقدَّس للهيكلِ حيثُ ستَمكُثُ إلى أن تَبلُغَ. حركة أيديهما تشير إلى الصليب المقدَّس. اليمنى أفقيَّة، واليسرى ممدودة عموديًّا.
هذا الأمر يعطي المعنى اللاهوتيَّ والخلاصيَّ للصليب. صحيح أنَّهما ينسلخان عن فلذة كبدهما، وهذا مؤلم عاطفيًّا، إلَّا أنَّهما في الوقت نفسه يتعزَّيان بعطيَّة الربِّ لهما، ويتعزَّيان أيضًا بإيمانهما بالربِّ. فابنتهما داخلة إلى قدس الأقداس، المكان الأكثر قداسة في هيكل الربِّ.
هذا هو الصليب في حياتنا، ظروفه مؤلمة ولكنَّ نهايته قيامة وحياة أبديَّة مع القائم القدُّوس.
زكريَّا الشيخ بدوره يفتح يديه ليستقبل التقدمة الاستثنائيَّة، إذ لا أحد يدخل قدس الأقداس إلَّا رئيس الكهنة، ومرَّة واحدة في السنة في يوم التكفير، بحيث يدخل ويكفِّر عن خطاياه وخطايا الشعب. وها هو، بسماح من الله، يسمح بدخول مَن ستحمل في أحشائها مَن سيكفِّر هو بنفسه عن البشريَّة جمعاء، مقدِّمًا ذاته طوعًا ذبيحة حيَّة. لهذا نرى زكريَّا يرتدي لباسًا كهنوتيًّا كأنَّه في قدَّاسٍ إلهيٍّ، كما يفعل الكهنة اليوم في سرِّ الشكر. إنحناؤه هو تعبير عن جلالة الحدث وقدسيَّته. ويكون بذلك كمَن يقوم بحركة استباق لدخول العهد الجديد.
مريم العذراء مُلتحفةً باللونِ النَبيذيِّ، لَونِ المَجدِ الإلهيِّ، لأنَّها ستَلدُ المخلِّصَ، الذبيحة الأبديَّة. فهي إنسانة وستلبس المسيح، عكس لون ثياب المسيح الَّذي هو أزرق من الخارج، وهو لون الخلق، إذ هو إله ولبس البشريَّة.
مسيرة العذراء بدأت باكرًا جدًّا، فهي كُرِّسَت للربِّ منذ صغرها وفُرزت له. وهذا معنى كلمة قداسة، أي الفرز والتخصيص.
العذارى يحملن مشاعِل ويَسِرْن بصمت رهيب. وُجودهنَّ ترجمة للمزمور: «بملابسَ مطرَّزةٍ تُحضَرُ إلى الملك. في إِثْرِها عذارى صاحباتُها. مُقَدَّماتٌ إليكَ» (مز 45: 14). وهنَّ أيضًا يُشِرْنَ إلى نقاوَةِ الحَدَث.
أمَّا المَشهَدُ الثاني فعُلْويٌّ ويَدعُونا لنرتفِعَ معَ والدة الإله الجالِسَةِ في أعلى سُلَّمِ الفضائِلِ. وهناكَ ملاكٌ نازل نحوها ليُعطيها طعامَها، إشارةً إلى الإفخارستِيَّةِ. فهي كانت تغتذي أوَّلًا من «الكلمة الإلهيِّ». هذا هو خبزنا الجوهريُّ الَّذي يجب أن نسعى إليه، ونطلبه كما نصلِّي في صلاة الأبانا.
هذه أيضًا مسيرة ارتقاء، فنحن لسنا ترابيِّين بل مخلوقين على صورة الله ومثاله.
وفي الخَلْفِ نشاهد العهدَ القديمَ مُمَثَّلًا بالهيكَلِ وحجاب الهيكل الَّذي يفصل بين القدس وقدس الأقداس. مفتوح، إشارة إلى أنَّ الربَّ سيلغيه ويشقُّه كما حصل عند صلبه، إذ بفدائه سيلغي المسافات بين الأرض والسماء، وتصبح بالتالي السماء مفتوحة بقيامته من بين الأموات. يقابِلُ الهيكل العَهدُ الجديدُ ممثَّلًا بالكَنيسَة. ومجد الربِّ يلفُّ المكان ويربط العهدين أحدهما بالآخر، إذ تحقَّقت النبوءات وتجسَّد المخلِّص.
ختامًا، ليس أجمل ممَّا يقوله الكاهن في التسبحة التاسعة في صلاة السحر: «لِوالدَةِ الإلهِ وأمِّ النُورِ نُكرِّمُ مُعَظِّمينَ».
نعم، نكرِّمها لكونها أم المخلّص، كما قالت هي في تسبحتها: «فهُوَذا منذ الآن جميعُ الأجيال تُطوِّبُني» (لو 1: 48)، ونعبد من سيولد منها: مخلِّصنا الوحيد وفادينا الحبيب.
إلى الربِّ نطلب.