لم تنته الحرب في غزّة بعد للاعلان عن رابح وخاسر، ولكن هناك الكثير من المعطيات والمؤشرات التي تكفي للحكم على سير الامور. ليس الهدف من طرح السؤال الاشادة بحركة "حماس" او ما قامت به، ولا الهدف ايضاً اعطاء الدعم للفلسطينيين الذين خسروا خلال شهرين تقريباً ما خسروه على مدى سنوات من الصراع والمناوشات مع الاسرائيليين. ولكن الهدف من السؤال هو الاضاءة على الخسائر التي تكبدتها اسرائيل خلال هذه الفترة من المواجهة.
صحيح ان الخسائر البشرية والمادية التي لحقت بالاسرائيليين تكاد لا تقارن من حيث النسبة بتلك التي لحقت بالفلسطينيين، ولكن الخسائر الاقتصادية والمالية والسياسية والدبلوماسية والنفطية والسياحية اكبر بكثير مما كان يمكن ان تتصوره اسرائيل.
من كان يعتقد او يصدق ان تصدر اصوات من داخل الادارة الاميركية تطالب باشتراط المساعدات لاسرائيل بوقف اطلاق النار في غزّة او الامتناع عن قتل المدنيين؟.
ومن كان يعتقد او يصدق ان يُسمع في الاتحاد الاوروبي صوت مطالب بمحاسبة المستوطنين الذين اعتدوا على فلسطينيين، او التهديد بوقف التعامل الاقتصادي (او على الاقل الحدّ منه) مع اسرائيل؟.
من كان يعتقد او يصدق ان التطبيع الاسرائيلي مع الدول العربية والذي انطلق بزخم ونشاط بات مهدداً اليوم بفعل الممارسات الاسرائيلية في غزة، ومن يمكنه استيعاب المخاطر الجدّية التي لحقت بالممر الاقتصادي الذي يربط الهند بأوروبا بعد اسابيع قليلة على اقراره وسنوات من الاعداد، بعد تراجع النشاط في التطبيع مع المملكة العربية السعودية وتهديد اسرائيل بأن الحساب مع قطر آتٍ لامحالة بعد الانتهاء من صفقة الاسرى وتوقّف الحرب؟.
من كان يعتقد او يصدّق ان حلم رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتانياهو في فرض دولة يهودية سيبقى مجرد حلم بعد ان كان قريباً جداً من اتخاذ الخطوات الاولى لتحويله الى واقع وتخليد اسمه لدى الاسرائيليين؟.
من كان يعتقد او يصدق ان المستوطنين باتوا يرغبون في مغلدرة مستوطناتهم وعد العودة اليها بعد ان كان توسيع المستوطنات من ابرز اهداف الاسرائيليين في الفترة السابقة لقضم الاراضي الفلسطينية اكثر فأكثر ومحاصرة هذا الشعب في بقعة جغرافية محدودة؟.
هناك الكثير من الاسئلة التي يمكن طرحها والتي تثبت بما لا يقبل الشكّ ان اسرائيل خسرت بشكل كبير خلال الشهرين الماضيين، ولعل اهمها على الاطلاق هو: هل من فرصة جدّية لاعادة احياء الكلام عن دولتين في وقت قريب؟ كل هذه المعطيات تضع اسرائيل في خانة الخاسرين، ولكنها في المقابل لا تعني وضع حماس او الفلسطينيين في خانة الرابحين، انما صورة الاسرائيليين كانت اقوى بكثير من صورة الفلسطينيين وها هي تتراجع لتصبح تقريباً في المستوى نفسه. ربح المسؤولون في تل ابيب في نسبة الخسائر البشرية والمادية ولكنهم خسروا في كل الميادين الاخرى، فيما ربح الفلسطينيون في الحسابات السياسية والدبلوماسية وخسروا بشكل فادح في نسب القتلى والدمار. هل خسرت اسرائيل الحرب؟ نعم، وفق المفهوم السياسي والدبلوماسي، ولكن قد تنقلب الامور في المدى البعيد اذا ما احسن المسؤولون الجدد في تل ابيب (بعد رحيل نتانياهو طبعاً) استغلال الضعف العربي كالعادة، واعادة وصل ما انقطع مع الغرب فتذهب كل الدماء والحجارة المفتتة ادراج الرياح وتعود الامور الى سابق عهدها فتبقى اسرائيل "الضحية" والفلسطينيون هم "الجلادون"، وتصغر القضية الفلسطينية الى حدود الاضمحلال، على امل الا تكسب اسرائيل جائزة الدولة الشرعية الاكبر والاضخم في مشروع اقامة الدولتين لاحلال السلام، فيبقى الفلسطينيون محصورين ومحاصرين في بقعة جغرافية صفيرة وشتاتهم وزع على الدول العربية القريبة.