خلال فترة "الهدنة المستقطَعة" من الحرب الإسرائيلية على غزة، و"الاستراحة الموازية" التي شهدتها الجبهة اللبنانية جنوبًا، حطّ المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان في بيروت في زيارة أثارت الكثير من الجدل، في الشكل قبل المضمون، ولو أنّها جاءت "متأخّرة" كثيرًا عن موعدها، باعتبار أنّ الرجل كان قد وعد بعودة "قريبة"، يوم غادر لبنان قبل أكثر من شهرين، على وقع الحديث عن "فشل" المبادرة الفرنسية على خطّ انتخابات الرئاسة.
في التوقيت، أثارت الزيارة الكثير من التساؤلات عن "الأجندة" التي يحملها المبعوث الرئاسي الفرنسي، المكلّف كما هو مفترض بملف رئاسة الجمهورية حصرًا، ولا سيما أنّ الملف الذي قيل إنّ إدارته انتقلت من باريس إلى الدوحة أصلاً، مجمَّد منذ زيارته الأخيرة، من دون تسجيل أيّ "خرق" يُذكَر، أو "تقدّم" يُبنى عليه، ولا سيما بعدما فرضت الحرب الإسرائيلية على غزة نفسها على "الأجندة"، وغيّرت كل الأولويات، بل أطاحت بكل الاستحقاقات.
وفي المضمون، أثارت الزيارة أيضًا الكثير من التكهّنات، ولا سيما أنّ كل المعطيات بيّنت أنّ الضيف الفرنسي لم يحمل في جعبته هو الآخر "أيّ جديد"، حتى إنّ بعض التسريبات أشارت إلى أنه كرّر الأفكار نفسها التي كان قد طرحها في زياراته السابقة، والتي بات بعضها "منتهي الصلاحية"، مجدّدًا الدعوة إلى حوار، أو "تشاور" كما يصفه، مع التركيز على وجوب انتخاب رئيس للجمهورية في أقرب وقت ممكن، من دون أيّ آليات عمليّة لذلك.
وبين هذا وذاك، ثمّة من قرأ في الزيارة المستجدّة "أبعادًا" تتجاوز ملف رئاسة الجمهورية، لتشمل تداعيات الحرب على غزة، ومصير القرار 1701، الذي يُحكى الكثير في الأوساط السياسية عن تعديلات ستطرأ عليه، بل تصل إلى استحقاق قيادة الجيش، وجدل التمديد للعماد جوزيف عون، فكيف تُقرَأ الزيارة في ضوء كلّ ذلك؟ هل يمكن القول إنّها "حرّكت" الملف الرئاسي بشكل أو بآخر، أم أنّ أهدافها هي في مكانٍ آخر بالمُطلَق؟
في المبدأ، يقول العارفون إنّ زيارة لودريان في السياق العام، تندرج في خانة المساعي الفرنسية لاستعادة "النفوذ" في المنطقة، انطلاقًا من البوابة اللبنانية تحديدًا، ولو أنّها البوابة التي عانت معها الأمرّين في الفترة الأخيرة من دون أن تحقّق أيّ إنجاز أو خرق، كما أنها يمكن أن توضَع في سياق "تحريك" الملف الرئاسي، واستغلال انشغال الإقليم، وقطر من ضمنه، بالأحداث في فلسطين، على حساب الملف اللبناني الذي يمكن أن ينتظر.
أكثر من ذلك، ثمّة من يربط عودة فرنسا إلى بوابة الشرق الأوسط في هذا التوقيت، بالانطباعات "السلبيّة" التي تركها الموقف الأوروبي عمومًا من الحرب على غزة، على الأقلّ في أيامها الأولى، ولو أنّ باريس حاولت إظهار "تمايز نسبي" لاحقًا، من خلال الدعوة إلى وقف دائم لإطلاق النار، خلافًا للموقف الألماني على سبيل المثال، والتشديد على وجوب حماية المدنيين، وإدخال المساعدات إلى قطاع غزة.
ومن هذا المنطلق، لا يستبعد العارفون أن تكون زيارة لودريان في سياق المسعى لتكريس دور فرنسي في لبنان، "أبعد من" ملف الرئاسة، ولو من بوابته إن جاز التعبير، علمًا أنّ تركيز الموفد الفرنسي في لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين على ملف القرار 1701، ليس بريئًا، ولا محض صدفة، بل هو يأتي في سياق نقاشات متصاعدة حول ما بقي من هذا القرار، وتبعات الاشتباكات التي تشهدها الجبهة الجنوبية عليه في المرحلة المقبلة.
ولعلّ اللقاء "العاصف" الذي جمع لودريان برئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، والذي انتهى في غضون دقائق فقط، بعد إثارة ملف التمديد لقائد الجيش، يكشف جانبا من "مهمّة" لودريان غير المحصورة بملف الرئاسة، ولو أنّ الرجل حرص على القول إنّه ينطلق باسم "الدول الخمس" وليس فقط باسم بلاده، ما أوحى بأنّه في "مهمّة" عنوانها التمديد لقائد الجيش، بوصفه "مطلبًا غربيًا عامًا".
وسط "زحمة" هذه الملفات والاستحقاقات، تُطرَح علامات استفهام عن "موقع" ملف رئاسة الجمهورية من "أجندة" زيارة لودريان، وما إذا كان الأخير قد استطاع فعلاً "تحريك" الملف من جديد، بعد "سبات" وقع فيه، وصل لدرجة خففت معه الأصوات المطالبة بعقد جلسة برلمانية لانتخاب الرئيس، معطوفة على أسئلة أخرى حول ما إذا كان الملف قد عاد من جديد إلى الرعاية الفرنسيّة، بعد أن كانت قطر قد استلمت زمامه في مرحلة سابقة.
في هذا السياق، تشير المعطيات المتوافرة إلى أنّ البناء على هذه الزيارة قد يكون صعبًا، فالملف الرئاسي لم يتحرّك فعليًا، وهو "يراوح مكانه"، بدليل المواقف التي رُصِدت على هامش الزيارة، والتي أوحت بأنّ كل فريق لا يزال متشبّثًا بخياره، فالداعمون لرئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية مصرّون على أنّ حظوظه لا تزال مرتفعة، والمعارضون له لا يزالون على موقفهم الرافض حتى للحوار والتفاهم مع الفريق الآخر.
ويقول العارفون إنّ أيّ تغيير، أو حتى "ليونة" لم تطرأ على موقف مختلف الافرقاء، بل إنّ "تشدّدًا" في الموقف ربما حصل في الفترة الأخيرة، حيث ثمّة من يعتبر أن نتائج الحرب الإسرائيلية على غزة، قد تفرض نفسها على "دفّة" الاستحقاق الرئاسي، وليس خافيًا على أحد مثلاً أنّ داعمي فرنجية يعتقدون أنّ انتصار المقاومة سيسهّل انتخابه، فيما ثمّة فريق آخر يرفض هذا المنطق، ويدعو للفصل بين الملفّين بشكل تام.
في كلّ الأحوال، يؤكد المطّلعون على الملف أنّ الرهان على الفرنسيّين لإحداث الخرق الرئاسي في لبنان لم يعد كبيرًا، وإنّ كل الأنظار متّجهة إلى الحراك القطري، الذي يستمرّ خلف الكواليس، بخلاف كلّ ما يُحكى في بعض الغرف الضيّقة، بدليل أنّ موفدًا قطريًا جال قبل فترة بين الأفرقاء، وإن وُضِعت زيارته في خانة "جسّ النبض والاستطلاع"، بانتظار "الفرصة المناسبة" التي تسمح للدوحة بالدخول على الخط بقوة، وإحداث "الخرق".
ثمّة من يعتقد أنّ الدوحة قد تكون قادرة على النجاح في مسعاها، حيث فشلت فرنسا، فمن نجح في الوصول إلى "هدنة" بين الفلسطينيين والإسرائيليين في "ذروة" حرب غزة المجنونة، لن يكون "متعذّرًا" عليه أن يقرّب وجهات النظر بين اللبنانيين. لكنّ هذا المنطق يصطدم، مرّة أخرى، بحقيقة ثابتة وحدة لا لبس فيها: الكرة تبقى في ملعب اللبنانيين أنفسهم، وما لم يبذلوا جهدًا "ذاتيًا" للحلّ، فإنّ أحدًا لن يستطيع مساعدتهم، مهما طال الزمن!.