كان الإنفجار الذي وقع في مرفأ بيروت، في الرابع من آب من العام 2020، المدخل الأساسي لعودة الحضور الفرنسي الكبير إلى لبنان، خصوصاً أنّ الساحة المحلّية كانت مشرّعة أمام أي جهة دولية وازنة من أجل رعاية تسوية في البلاد، في ظل حالة الفوضى التي ولدت بعد تداعيات حركة 17 تشرين الأول من العام 2019.
منذ ذلك الوقت، سلطت الأضواء على دور باريس في الملف اللبناني، لا سيما أن العديد من اللاعبين الدوليين والإقليميين، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية، كانوا قد قرروا الإبتعاد عن الواجهة، في سياق برنامج عمل يقوم على زيادة الضغوط على بعض الأفرقاء المحليين، تحديداً "حزب الله"، لدفعهم إلى تقديم تنازلات كبيرة.
من حيث المبدأ، لم تكن فرنسا، بحسب ما تؤكد مصادر سياسية متابعة لـ"النشرة"، تملك القدرة على فرض أي من الخيارات على الأفرقاء المحليين، بسبب غياب أوراق القوة التي من الممكن أن تستخدمها، ولذلك كان التركيز على إمكانيّة أن تلعب دور الوسيط بين الأفرقاء المتنازعين، خصوصاً أنها كانت تحمل ما يمكن وصفه بـ"التفويض" الأميركي، الذي أعيد تجديده من قبل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، بعد إنتهاء ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب.
في ذلك الوقت، تشير المصادر نفسها إلى أنّه كان من الواضح أن باريس ليس لديها التفويض الأميركي الشامل، الأمر الذي أدى إلى سقوط الطروحات التي كانت قد تقدمت بها، أبرزها حين فشل السفير اللبناني في برلين مصطفى أديب تشكيل الحكومة بعد تكليفه، في حين هي كانت تسعى إلى إقناع الرياض بالإنخراط بالجهود التي تقوم بها، نظراً إلى أنها تدرك أهمية حضور المملكة على المستوى اللبناني.
بالنسبة إلى هذه المصادر، لم يكن يقرأ الجانب الفرنسي، طوال الفترة الماضية، التوازنات اللبنانية بشكل دقيق، وهو ما تكرس بعد دعمه المقايضة الرئاسيّة، التي تقوم على أساس إنتخاب رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجيّة رئيساً للجمهورية مقابل تكليف القاضي السابق نواف سلام تشكيل الحكومة، الأمر الذي إلى قاد إلى توتير علاقاته مع بعض الأفرقاء، قبل أن يعود إلى دعم الخيار الرئاسي الثالث، ما أدّى رفع مستوى التوتر بعلاقاته مع باقي الأفرقاء.
في الأشهر الماضية، تراجع الإهتمام بالملف المحلّي نتيجة التطورات في قطاع غزة، في ظل العدوان الإسرائيلي المفتوح، في حين كان الدور القطري يتقدم لبنانياً على وقع تعرض باريس لمجموعة من الإنتقادات، خصوصاً من قبل أعضاء اللجنة الخماسيّة، لكن في الفترة الراهنة عادت فرنسا إلى التركيز على الملف اللبناني، لكن بشكل يكرّس الأخطاء الماضية على نحو أكبر، ما يهدّد دورها في لبنان.
وهو ما تأكد، خلال زيارة مبعوثها الرئيسي إلى لبنان الماضية جان إيف لودريان، من خلال الدخول في تفاصيل داخليّة خلافيّة، كمسألة التمديد لقائد الجيش العماد جوزاف عون، وربط الموضوع بحماية أوروبا من موجات هجرة النازحين السوريين، في حين أن الجانب الأوروبي لا يزال يمارس الضغوط على لبنان لمنعه من الذهاب إلى أيّ معالجة عمليّة لهذا الملفّ، بدليل البيان الذي صدر عن البرلمان الأوروبي قبل أشهر.
في هذا الإطار، تلفت المصادر السّياسية المتابعة إلى أنّ فرنسا كانت تستند في دورها على أنّها الدولة الغربية الكبيرة الوحيدة التي تحافظ على قنوات إتصال مباشرة مع "حزب الله"، الأمر الذي وفّر لها هامش تحرك واسع، لكن حجم الأدوات التي لديها لا يسمح لها بأن يتجاوز دورها حدود الوساطة، وهو ما لم تقتنع به، على ما يبدو، ما أدّى إلى وقوعها في مجموعة من الأخطاء المتراكمة، وسبب حرجاً لها على أكثر من صعيد.
أما اليوم، تطرح المصادر نفسها الكثير من علامات الإستفهام حول قدرتها على الإستمرار بهذا الدور، نظراً إلى أنها، منذ بداية العدوان الغزة وتداعياته على الساحة اللبنانية، خرجت عن إطاره، لتكرس نفسها في فلسطين المحتلة شريكاً في الحرب، من خلال دعوة رئيسها إيمانويل ماكرون إلى تشكيل تحالف دولي لمحاربة حركة "حماس"، بينما في لبنان كانت فريقاً أساسياً في الضغوط التي تمارس، خصوصاً على "حزب الله".
في المحصّلة، تشير هذه المصادر إلى أن باريس اليوم، التي تعلن أنها معنيّة بالحفاظ على الإستقرار المحلّي لا سيما في الجنوب، لا تقوم بالإلتزام بالقواعد التي تفرضها الوساطة، بل على العكس من ذلك تعبّر، بشكل أو بآخر، عن وجهة النظر الإسرائيليّة، وتسعى إلى تأمين مصالح تل أبيب من خلال التهديد، في بعض الأحيان، أو التهويل، في أحيان أخرى، الأمر الذي سيكون له تداعيات في المرحلة المقبلة.