فيما بقي ملفّ التمديد لقائد الجيش العماد جوزيف عون محور المواقف هذا الأسبوع، وسط "ترقّب" لاحتمال دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى جلسة تشريعية الأسبوع المقبل، على وقع الحديث عن "حسم" للملف، خصوصًا بعد زيارات الموفدين الدوليين الأخيرة، عادت تطورات الجنوب إلى صدارة الاهتمام، في ظلّ مخاوف تتصاعد حول إمكانية أن تشهد الجبهة اللبنانية المزيد من "التصعيد" تزامنًا مع تصاعد العدوان على قطاع غزة.
ولعلّ ما أثار الاهتمام هذا الأسبوع بشكل خاص، إلى جانب التطورات الميدانية ومسار عمليات "حزب الله" والقصف الإسرائيلي المضاد الذي تجاوز قواعد الاشتباك، تمثّل في إعلان حركة حماس تشكيل ما سُمّي بـ"طلائع طوفان الأقصى"، تحت عنوان التأكيد على دور الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة "في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المُتاحة والمشروعة"، واستكمالاً لما حقّقته عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول الماضي.
ولم يكن غريبًا أن تُقابَل خطوة حركة حماس في لبنان، التي وُصِفت بالمفاجئة، بالكثير من الاستهجان في الداخل اللبناني، حيث أثارت اعتراض معظم القوى والكتل السياسية، التي تقاطعت على اختلاف توجّهاتها وانتماءاتها، عند "رفض" استخدام الساحة اللبنانية مجدّدًا من قبل الفصائل الفلسطينية، ما قد ينذر بأثمان باهظة سبق أن اختبرها اللبنانيون في أكثر من محطّة تاريخية، والتأكيد على وجوب احترام "سيادة" لبنان على كامل أراضيه.
وإذا كانت حركة حماس سارعت إلى "توضيح الالتباس" الذي أثاره بيانها، واضعة "طلائع طوفان الأقصى" في سياق شعبوي تعبوي، وليس عسكريًا، كما قال ممثلها في لبنان أحمد عبد الهادي لـ"النشرة"، مشدّدًا على أنّ بيان الحركة "فُهِم خطأً"، فإنّ ذلك لم يحجب علامات الاستفهام التي طُرِحت، فهل كان البيان هو الذي "فُهِم خطأ" فعلاً، أم أنّ الحركة التي تراجعت على وقع ردود الفعل؟ وهل بدّدت توضيحاتها كلّ الهواجس التي عبّر عنها اللبنانيون؟.
في المبدأ، يقول العارفون إنّه بمعزل عن "حقيقة النوايا" التي تقف خلف بيان تأسيس "طلائع طوفان الأقصى"، كان من الطبيعي أن يثير هذا التشكيل المستجدّ الهواجس والمخاوف، خصوصًا أنّ الذاكرة اللبنانية لم تنسَ بعد مرحلة ما بعد اتفاق القاهرة في العام 1969، الذي هدف إلى "تنظيم" الوجود الفلسطيني في الداخل اللبناني، فكان "نواة" لمقاومة مسلحة من الداخل اللبناني، سرعان ما خرجت عن السيطرة، وأسّست لما عُرِف لاحقًا بـ"الحرب اللبنانية".
من هنا، لا يبدو أنّ ردود الفعل الرافضة لإعلان حركة حماس تأسيس "طلائع طوفان الأقصى" كانت خارج السياق، أو حتى تنطوي على مبالغاتٍ كما حاول البعض الإيحاء، ولا سيما أن بيان التأسيس لم يوحِ بأنّ الأمر مجرّد "فكر تعبوي أو ثقافي"، ولا سيما أنّه نصّ على أنّ هذه "الطلائع" تأتي في سياق ضمان "مشاركة رجالنا وشبابنا في مشروع مقاومة الاحتلال والاستفادة من طاقاتهم وقدراتهم العلمية والفنية"، وهو ما يمكن أن يُفهَم من زاوية "عسكرية".
ولعلّ المفارقة اللافتة في هذا السياق، أنّ رفض الخطوة لم يكن حكرًا على لون طائفي واحد، أو حتى على فريق سياسي واحد، فـ"القوات اللبنانية" مثلاً التي يشكّك البعض في موقفها "المتضامن" مع قطاع غزة، في ضوء بعض المواقف التي أطلقتها من عملية "طوفان الأقصى"، لم تكن وحدها في الميدان، بل إنّ "التيار الوطني الحر" الذي تضامن مع الفلسطينيين، سبقها في ذلك، حيث كان الوزير السابق جبران باسيل أول من أدان الخطوة.
لكنّ الأهم من موقفي "التيار" و"القوات" وغيرهما، يبقى موقف "حزب الله" الذي يُقال في الكواليس السياسية إنّه لم يكن "مرتاحًا" لإعلان الحركة غير المنسَّق معه، وهو وإن لم يُبدِ "تحفّظاته" في العلن، سعى لاحتواء الأمر سريعًا مع قيادات الحركة، وفق ما أشارت بعض الأوساط السياسية، ولا سيما أنّ الحزب اعتبر أنّ مثل هذه الخطوة قد تسيء لحركة التضامن اللبناني التي قد لا تكون مسبوقة حجمًا ونوعًا، مع المقاومة في فلسطين.
عمومًا، يقول العارفون إنّ التوضيحات التي صدرت عن حركة "حماس" قد تكون مفيدة لتبديد الهواجس، خصوصًا أنّ ممثلي الحركة حرصوا على تأكيد احترام السيادة اللبنانية، وعدم وجود أيّ رغبة لديهم في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أو الذهاب مثلاً إلى "حماس لاند"، كما قال ممثل الحركة في لبنان لـ"النشرة"، علمًا أنّ "الفورة" التي أحدثها بيان التأسيس تراجعت بشكل سريع على وقع التوضيحات، وإن سعى بعض الأطراف لاستثمارها في السياسة.
في هذا السياق، لم تبدُ بعض القوى السياسية مقتنعة بكلام ممثلي الحركة في لبنان، وأوحت بأنّ "حماس" تراجعت بعدما "صُدِمت" بردود الفعل التي لم تحسب لها حسابًا، فأدرت أنّها ارتكبت "خطأ" قد ينقلب عليها بالدرجة الأولى، فيما ذهب بعضها الآخر ليحمّل "حزب الله" المسؤولية، باعتبار أنّ "حماس" لا يمكن أن تقدم على مثل هذه الخطوة من دون التنسيق معه، والحصول بالتالي على موافقته "الضمنية" بالدرجة الأولى.
لكن، حتى لو صحّت هذه الافتراضات، يقول العارفون إن الأمر الأساسيّ أنّ مواقف الحركة التوضيحيّة ثبّتت "طيّ صفحة الماضي"، وأكّدت عدم قدرة الفصائل الفلسطينية على قيادة المقاومة المسلحة من البوابة اللبنانية، في ضوء الموقف اللبناني "الجامِع" إلى حدّ بعيد بالحدّ الأدنى، علمًا أنّ اللبنانيين سبق أن اتفقوا على طريقة معالجة السلاح الفلسطيني على طاولة الحوار، ولو أنّ ذلك لم يقترن بآليات عملية وتنفيذية سريعة.
في النتيجة، ليس خافيًا على أحد أنّ ما بعد "طوفان الأقصى" ليس كما قبلها، لا على مستوى لبنان فحسب، بل على مستوى العالم بأسره، الذي شهد مرّة أخرى على تشبّث الفلسطينيين بأرضهم، وإصرارهم على مواجهة عدوّهم بكل الوسائل المشروعة والمُتاحة. وإذا كانت الحرب الهمجية التي تُشَنّ عليهم، رفعت من حجم التضامن الأخلاقي معهم بالدرجة الأولى، فإنّ الثابت في لبنان، أنّ التاريخ لا يجب أن يعيد نفسه، وهنا بيت القصيد!.