وأخيراً نفضت الأمم المتحدة الغبار عن وثائقها وموادها المخبأة في الخزانات، وتذكّرت أن لها صلاحيات من الممكن ان تستخدمها في النزاعات والصراعات، لإيقاف براكين الدم وقتل الأبرياء المدنيين.
مرّت العقود على وقعِ الصراعات الدامية في الشرق الأوسط واوروبا الشرقية، وكلّ ما استطاعت الأمانةُ العامة للأمم المتحدة فعلَه، هو القلق والخوف والصلاة والندب والشجب، وإرسال برقيات التعزية، والوقوف دقيقة صمت في قاعات المنظمة على أرواح الأبرياء.
عقود مضت والفلسطينيون يعيشون تحت مقصلة القتل اليومي، والأمم المتحدة، مع مجموعات الدول المنضمّة اليها، تتحكّم بقراراتها المصالحُ والاتّفاقات والمشاريعُ الاقتصادية. عقود لم توفر آلةُ القتل أيَّ دولةٍ، خاصة في افريقيا ودول الشرق الأوسط، فتحوّلت المنظمة في نيويورك الى جمعيّةٍ إنسانية لتوزيع الأدوية والغذاء على اللاجئين، ومؤسسة تواجه تحديات المناخ.
عصفت رياح التغيير بعد ثورة الإنترنت، وبعدما شبعت الشعوب من الفقر والذلّ، وأزهر الربيع العربي من مصر الى سوريا، ثم ليبيا واليمن، وتداخلت برامج النفط الأجنبية مع أحلام الشباب بالتغيير، فتفككت شرايين الدول، واشتعلت المناطق العربية بالرصاص، فمات من مات، وهُجّر من هُجّر، وكلُّ ما استطاع فعله أمين عام الأمم المتحدة السابق بان كي مون هو "القلق" وإرسال البطانيّات للاجئين. كي مون القادم من معسكر الغرب، من دولة كوريا ذات الصناعة الرائدة، الحليفة لأميركا، لم يتجرأ يوماً على اللجوء الى ميثاق الأمم المتحدة، ليرى تحت أية مادة يمكنه ان يوقف آلة القتل، مع "أن المادة 99 من ميثاق المنظمة، الذي وُقّع في فرنسيسكو منتصف 1945، تُنبّه مجلس الأمن الى أية مسألة يرى أنها تهدد حفظ السلام والأمن الدوليين". علاج سياسي بمفعول "أسبيرين" لم يجرؤ بان كي مون حتى على استخدامه، الأمر الذي جعل المراقبين يتوقعون إقفال المنظمة الدولية لعدم قدرتها على ممارسة فعاليتها.
وعلى الرغم من أنها مادة تنبيهية للخطر والسلم في العالم، لم يستخدمها قادة الأمم المتحدة سوى عشر مرات، أول مرة في الكونغو عام 1960، ثم في شرق باكستان عام 1971، عندما توترت العلاقات على الحدود مع الهند. في المرة الثالثة كان عام 1974 في قبرص، وخلال أزمة الرهائن الأميركيين في ايران عام 1979، في حرب إيران والعراق عام 1980، في أزمة الكونغو الديمقراطية وفي حرب ليبيريا الأهلية عام 2003، أما لبنان فلقد تشرّف بتدخّل هذا القرار في صراعاته مرتين، الاولى عام 1989 خلال حرب التحرير ضد سوريا، والثانية عام 2006 خلال عدوان تموز.
واليوم، تحرّك أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش واستخدم حقّه الدبلوماسي، بعدما أصبح خلافه مع إسرائيل معلناً، فالأخيرة طالبته بالرحيل ووصفته بعدم كفاءته لقيادة المنظمة الدولية، لأنه لم يناصرها معتبراً "ان الشعب الفلسطيني يتعرّض لـ56 عاماً من احتلال خانق". وبعد تنسيق مع دولة الإمارات مدعومة من الدول العربية، أطلقت مشروع قرار اصطدم يوم الجمعة الفائت بالفيتو الأميركي في جلسة التصويت، فعجز الأمين العام ومادته 99 من وقف إطلاق النار في أعنف نزاع دموي.
لم تكن صراعات اليمن وسوريا وأوكرانيا أقل ممّا يحصل اليوم في غزة. لماذا لم يتحرّك الأمين العام ويستخدم أدواته القانونية قبل اليوم؟ الجواب بسيط: ربما استغل أنطونيو غوتيريش صراع فئات الحكم في واشنطن التي تتواجه بشكل عامودي في موضوع دعم اسرائيل بالمال والسلاح؛ وبالأمس صوّت مجلس الشيوخ الأميركي على رفض مساعدة اوكرانيا واسرائيل بالمال المطلوب للوقوف في وجه روسيا وفلسطين.
لا بد من الإشارة والتنويه الى أن أنطونيو غوتيريش، الأوروبي الأصل، القادم من خلفية برتغالية اشتراكية، مدرّسٌ سابق في المعهد العالي للتكنولوجيا في لشبونة، ونائبٌ ووزير سابق في البرتغال، ومفوّضٌ سامٍ سابق للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. اتّسمت إدارته بالاحتراف والنجاح، الأمر الذي قاده الى رأس سلطة الأمم المتحدة.
غوتيريش الذي برز كمناضل في سبيل الإنسانية وحقوق الأطفال، كانت له جولات تفقّدية وقرارات ناجزة عندما كان على رأس مفوضية اللاجئين. الواضح أنه تأثر بمشاهد المجازر التي ارتُكبت في فلسطين، في المستشفيات والكنائس، في المدراس والأوقاف، حيث غرقت غزة بدماء أطفالها، فتصدّرت صورهم أخبار العالم، ولم تعد أية بيانات تبرير تنفع إسرائيل، حتى في واشنطن، التي راح موظفو خارجيّتها يقدمون استقالاتهم تباعاً، انتصاراً للإنسانية في فلسطين.
غوتيرش الذي يحمل اليوم مفاتيح مكتبه ويستعدّ للرحيل لإقفال مسيرته الأممية في العام المقبل، لم تعد تعنيه مسايرة الولايات المتحدة او غيرها، كالمرحلة التي سبقت انتخابه لدورة ثانية لمدة أربع سنوات، فكانت اليمن ضحية المسايرة آنذاك. اما اليوم، فهو لم يعد يخاف على أي دور او منصب. فلقد ختم كل المناصب بقيادة المنظمة الدوليّة، وهو ذاهب ليدخل التاريخ. فإما أن يدخله مطأطأ الرأس، راضخاً للمصالح الدوليّة، متعامياً عن مشاهد دماء أطفال فلسطين، وإما أن يدخله مرفوع الرأس، مناصراً للإنسان البريء، صاحب الأرض والحق، للأطفال التي خسرت حياتها قبل أن تبدأ.