يوما السابع والعشرين والثامن العشرين من شهر كانون الثاني، يومان مميَّزان في الدورة الليتورجيَّة الكنسيَّة وحياة المؤمنين قاطبة. ففي الأوَّل تقيم الكنيسة تذكار نقل جسد القدِّيس يوحنَّا الذهبيِّ الفم إلى القسطنطينيَّة (+407م)، وفي اليوم التالي يقام تذكار البارِّ أفرام السريانيِّ (+373م).
الأوَّلُ يُعتبَرُ معلِّمًا في شرح الكتاب المقدَّس من خلال عظاته الناريَّة والمشتعلة بالروح القدس، لهذا لقبُه الذهبيُّ الفم، والثاني مُلَقَّب بقيثارة الروح وهو معلِّم في التوبة، بالإضافة إلى ألحان وكتابات وأشعار يصعب إحصاؤها، إذ إنَّ خصبه الروحيَّ وفير جدًّا وفيَّاض.
صحيح أنَّ كلًّا منهما تميَّز بأمر قد يبدو مختلفًا عن الآخر، ولكن في العمق هما غير منفصلين إطلاقًا، لا بل متكاملان، وذلك لأسباب ثلاثة:
الأوَّل، مصدرهما واحد، وهو الربُّ يسوع المسيح. الثاني، كلاهما جاهدا جهاد الحقِّ المليء بالصلوات والأصوام والتوبة وإخلاء الذات. الثالث، لأنَّ اللاهوت واحد لا يتجزَّأ، فالكتاب المقدَّس والعقيدة وتعاليم الآباء القدِّيسين والليتورجيَّة والصلوات، تشكِّل كلُّها وحدة واحدة متكاملة لا يمكن فصلها، وإلَّا وقعنا في أمِّ الهرطقات، وأصبح اللاهوت مادَّة جامدة دون الروح تُدرَّس ولا تعاش. ونكون بذلك ضربنا مفهوم اللاهوت الحقيقيِّ ألا وهو أنَّ اللاهوتيَّ هو المصلِّي، وليس الحائز شهادة في دراسة اللاهوت.
فإذا تمعَّنَّا مثلًا في حياة القدِّيس يوحنا الذهبيِّ الفم، والَّذي يُعتبر من كبار شرَّاح الكتاب المقدَّس، لوجدنا أنَّه كان يقرأ الكتاب ساجدًا أو واقفًا، ويعود يدخل في صلاة عميقة يرافقها سجدات وتضرُّع. لهذا أتت عظاته من فيض الروح القدس فيه، وترجمة لما كان يعيشه. فاعتلاؤه المنبر ليعظ ما كان إلَّا الوقوف بخشوع أمام المنبر الإلهيِّ كما كان يعبِّر. وهذا ما كان ليتمَّ لو لم يكن رجل صلاة، وساعيًا حقيقيًّا ليتنقَّى من أهوائه المعيبة ليخلع الإنسان القديم ويلبس لباس الذهب المصفَّى بالنار وقد استغنى به، تمامًا كما دعانا الربُّ يسوع المسيح[1] أن نفعل.
كذلك القدِّيس أفرام السريانيُّ غرف وارتوى من أسفار الكتاب المقدَّس، وكان أليفه، وترجمه أبياتًا وأشعارًا وقصائد، بالإضافة إلى الشروح والكتابات.
إذًا، هما وجهان لأيقونة واحدة. فالَّذي نقرأه في الكتاب المقدَّس نصلِّيه ونعيشه ونترجمه أفعالًا وسيرة.
لنتفحَّص هذا القول الذهبيَّ للذهبيِّ الفم: «يا إلهي؛ املأ عينيَّ بالدموع واجعلنى أتذكَّر الموت وأندم على خطاياي». ألا نشعر كأنَّنا نقرأ للقدِّيس أفرام الَّذي قال: «لنتُبْ يا إخوة ما دام لنا وقتٌ»؟ وفي المقابل نرى أنَّ مؤلَّفات الأخير محبوكة بالكتاب المقدَّس بعهدَيه، وهو الَّذي قال: «يا إلهنا، مَن يستطيع استيعاب كلِّ الغنى الموجود في كلماتك؟».
هذان القدِّيسان يقدِّمان لنا نموذجًا رائعًا عن التكامل اللاهوتيِّ، وجوابًا قاطعًا باستقامة كلمة حقٍّ، لكلِّ من يقول إنَّ الكتاب المقدَّس شيء وأقوال الآباء شيء آخر!.
وهما يُفحمان كلَّ من يحاول أن يقترب من الكتاب المقدَّس كمادَّة دراسيَّة مستقلَّة عن حياة التقوى والتوبة. فالربُّ لا ينشد السكولاستيكيَّة Scolastique –المدرسيَّة– فقط، بل يقول: «إِن كنتم تحبُّونني فاحفظوا وصاياي» (يو 14: 15).
الحفظ هنا ليس عقليًّا وترداد كلمات، بل موت عن الذات وحَمل للصليب لولادة نقيَّة جديدة. فِعل «الحفظ» نجده أيضًا في وصيَّة الربِّ للتلاميذ بعد قيامته بأن يبشِّروا المسكونة جمعاء: «وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به» (متَّى 28: 20). هذا معناه الالتزام والحرص على الالتزام والعمل بالإيمان.
هذا تمامًا ما أوصى بولس الرسول به تلميذه تيموثاوس: «لاحِظ نفسك والتعليم وداوِم على ذلك، لأنَّك إذا فعلت هذا، تُخَلِّصُ نفسك والَّذين يسمعونك أيضًا» (1 تيموثاوس 4: 16).
التحدِّي كبير وهو ألَّا يغرق الإنسان في التبحُّر في المعرفة اللاهوتيَّة وينسى هدفها الأساسيَّ، أي عيش اللاهوت، وخلاص نفسه والآخرين.
الملاحظة الدائمة للنفس تتمُّ في الصلاة المفعمة بالتواضع ومراجعة الذات على ضوء الإنجيل. هذا ما كان عليه قدِّيسانا يوحنَّا وأفرام وكلُّ القدِّيسين.
هذا أيضًا ما نرتِّله في تذكار الآباء القدِّيسين: «أنت أيُّها المسيح إلهُنا الفائقُ التسبيح، يا من أسَّست آباءنا القدِّيسين على الأرض كواكبَ لامعة، وبهم هديتَنا جميعًا إلى الإيمان الحقيقيِّ، يا جزيل الرحمة المجد لك».
ما أجمل هذه العبارة «كواكب لامعة». فهم لمعوا بتوبتهم وملاحظتهم الدائمة لأنفسهم، وحرصهم الدائم على حفظ كلام الربِّ ووصاياه حفظ الأمانة والوديعة والسير في طريق الربِّ.
طبعًا يريدنا الربُّ أن نفهم ونتعلَّم، ولكن ما لا يريده هو أن نتكبَّر ونجعل من أنفسنا آلهة. الفرِّيسيُّون حفظوا الأسفار، ولكنَّهم للأسف حفظوها حرفًا جامدًا وصنميًّا، فنالوا من الربِّ أشدَّ التوبيخ، وتوجَّه إليهم ثماني مرَّات كالتالي: «وَيْلٌ لَكُمْ» (متى 13:23-29). سبب ويلاتهم كبرياؤهم أم الخطايا.
لهذا، فإنَّ مراقبة أنفسنا تبدأ بالانتباه بشدَّة، إلى أنَّ اللاهوت ليس مادَّةً فكريَّة بل إلهيَّة، فكلمة Théologie لا تعني فقط الكلام حول الله بل كلام الله وفعله ومبدأه ومنطقه وتدبيره. والتعمُّق فيه ليس موضوع تباهٍ وتكبُّر وتعالٍ، بل على العكس تمامًا، هو دافع محبَّة وبذل ذات واتِّضاع كامل.
وإن استشهدنا بأقوال قدِّيسين بخطابة رنَّانة، فعلينا أن نتذكَّر دائمًا أنَّ القدِّيسين هم أصحاب القول وليس نحن، وترداد أقوالهم لا يعني أنَّنا شابهناهم وجاهدنا جهادهم، وأخلينا ذواتنا مثلهم.
بالعودة إلى القدِّيسَين أفرام ويوحنَّا، نرى أنَّ الربَّ أنعم عليهما بأن يكونا حقًّا كوكبين لامعين، فالسريانيُّ أبهر العالم بروحانيَّته وفيض كتاباته، وبات معلِّمًا لكلِّ الأجيال، والذهبيُّ الفم لم يبهر مَن سمعه عندما كان حيًّا بالجسد فحسب، بل أبهر أيضًا المؤمنين بعد رقاده، إذ عندما بلغ نعشه كنيسة الرسل القدِّيسين في القسطنطينيَّة، ووُضع على العرش الأسقفيِّ سُمع صوته يقول: «السلام لجميعكم!».
إلى الربِّ نطلب.
[1]. "أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي ذَهَبًا مُصَفًّى بِالنَّارِ لِكَيْ تَسْتَغْنِيَ" (سفر الرؤيا 18:3)