أشار راعي أبرشيّة مار مارون في كندا المطران بول مروان تابت، خلال ترؤّسه الذّبيحة الإلهيّة لمناسبة عيد القديس مارون، بمشاركة السّفير البابوي في كندا ايفان يانوكوفيتش والمونسنيور آلان فوبير ممثّلًا رئيس أساقفة مونتريال المطران كريستيان ليبين، إلى أنّ "حياة أبينا مارون المتواضعة كناسك وتفانيه في الصّلاة، يذكراننا بأهميّة البحث الرّوحي في مسيرة إيماننا، في عالم مزدحم بالعديد من المتشتّتات، فنتبع مثاله من خلال البحث عن لحظات صمت وصلاة لسماع صوت الرّب".
ولفت إلى أنّ "يسوع يستخدم الصّورة القويّة لحبّة الحنطة، الّتي تموت لتعطي ثمرًا. تذكّرنا هذه الاستعارة أنّ في بعض الأحيان، لكي تظهر الحياة، علينا أن نمرّ بالموت. إنّه درس عميق حول طبيعة التّضحية والتّحوّل"، موضحًا "أنّنا في حياتنا، نواجه أوقاتًا من المعاناة والخسارة، حيث يبدو أنّ كلّ أمل قد فُقد. ولكن في هذه اللّحظات بالتّحديد، نحن مدعوّون إلى الثّقة بالله، وإلى اتباع مثال المسيح والقبول بعمليّة الموت والقيامة هذه، لأنّ في استسلامنا للإرادة الإلهيّة تكمن فينا الحياة الحقيقيّة والخلاص الحقيقي".
وشدّد المطران تابت على أنّ "موت يسوع على الصليب لم يكن فشلًا، بل كان عملًا من أعمال المحبّة الأسمى، إذ يكشف لنا عمق محبّة الله للبشريّة. إنّ قيامته هي الوعد بقيامتنا، الوعد بأنّ الكلمة الأخيرة ليست للموت، لأنّ الحياة تنتصر دائمًا، وأنّ نور المحبّة الإلهيّة يشرق دائمًا حتّى في الظّلمة".
وركّز على أنّ "عمليّة نمو كلّ زرع تحدثُ في ظلمةِ وصمتِ التّراب. هكذا وبالمثل، يمكن أن تكونَ اللّحظات المظلمة في حياتنا، تربةً خصبةً تأخذ فيها إرادة الله جذورَها. لننظُر إلى حياة مار مارون، صمته وتضحياته وموته عن ذاته، وكيف رصَفَت الجماعة المارونيّة مداميك بنيانها حجرًا حجرًا".
كما أكّد "أنّنا جميعًا نشعر بالقلق على مستقبل لبناننا العزيز في هذا الوقت الخطير. ويشدّد بطريركنا الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، على الضّرورة الملحّة لتطبيق القرار 1701، الّذي يؤكّد حدودنا التّاريخيّة الّتي تمّ ترسيمها عام 1923".
وذكر تابت أنّ "في منطقتنا المضطّربة وفي مواجهة المأساة الإنسانيّة المؤسفة في غزة، تنشط الدّبلوماسية الكنديّة والدّوليّة، وتنحاز نحو حماية لبنان ودعم حلّ الدّولتين من أجل السّلام الدّائم. وهذا النهج هو نهج الفاتيكان، الصّديق الّذي لا يتزعزع للبنان، والّذي اعترف بالدّولة الفلسطينيّة في عام 2015"، مشيرًا إلى أنّ "هذا الاعتراف يعزّز أيضًا مكانة الأرض المقدّسة كمكان للتّعايش والحوار بين الأديان، وممرّ إلزامي نحو الاستقرار والسّلام في الشّرق الأوسط".
واعتبر أنّ "من الأهميّة بمكان، استعادة حقوق لبنان في موارده، وصيانة سيادته، والحفاظ عليه من ويلات الحرب والفوضى، من أجل إعادة توجيهه نحو طريق السّلام والازدهار، وانتشاله من الفقر والبؤس"، وحثّ النّواب على "تنظيم انتخاب رئيس للجمهوريّة من دون تلكّؤ وعلى الفور".
وشدّد على أنّ "تعمّد إدامة الفراغ في السّلطة القضائيّة الأولى وعرقلة انتخاب الرّئيس الماروني، من شأنه أن يجعل لبنان، الّذي كان يومًا نموذجًا للدّيمقراطيّة والحرّيّات الفرديّة والمجتمعيّة، دولةً فاشلةً ومختلّةً، ومجتمعًا طائفيًّا ومذهبيًّا، معرّضًا لمنافسات الطّوائف والقوى الأجنبيّة".
إلى ذلك، أضاف تابت: "لبنان الكبير كان دولة مدنيّة قامت على المواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية، وتحترم مجتمعاتها وضامنة حرّيّة الضّمير. ويجب ألّا تنجرف نحو دولة سلطويّة دينيّة وطائفيّة، تهدّد الفصل بين السّلطات، وتخالف الدستور اللبناني ومبادئ الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة والبرلمانيّة"، معلنًا أنّ "علينا أن نعمل على تعزيز الصّالح العام لجميع النّاس، بدلًا من تفضيل المصالح الطّائفيّة الّتي تفتّت وحدتنا الوطنيّة".
ودعا "بإلحاح أهلَنا، إلى الالتفاف حول العلم اللّبناني وحول مرجعيّتنا الرّوحيّة والوطنيّة، واعتماد لغة الحوار والتّفاهم حول القرارات المصيريّة وتعزيز الإجماع حولها، فلا تَفرض جهةٌ، أيًّا كانت، مسيحيّةً أو مسلمةً، موقفًا عنوةً واستفرادًا على شركائها دون شورى".
ودعا أيضًا، الجميع إلى "النّأي عن لغة التّخوين والقدح والإسفاف والتّشكيك والتّطاول على الرّموز الّتي تتفانى في خدمة القضيّة اللّبنانيّة، وترفع الصّوت في المحافل الدّوليّة ودوائر القرار لَرفعِ الضيم عن لبنان، كما التّنبُّهِ إلى الصّراعات الدّائرة وما قد تحمله من مخاطر على الكيان، ومن تسويات مجحفةٍ في حقّ الصّيغة الميثاقيّة؛ مما يفاقم القلق على الوجود والسلم الأهلي".
من جهته، لفت المطران يانوكوفيتش، إلى أنّ "القديس مارون يحتلّ موقعًا مميّزًا في قلب مسيحيّي الشرق الأوسط، وخصوصًا بالنّسبة إلى الكنيسة المارونية الّتي يرتبط قدرها بقوّة بقدر كلّ لبنان".
وأفاد بأنّ "هذا الرّابط كانت له آثاره، كما يدلّ إلى ذلك التّراث الرّوحي الّذي صنع هويّة الكنيسة المارونيّة. وما هو جدير بالإعجاب، أنّ الموارنة الّذين غادروا لبنان في السّنوات الخمسين الماضية، استطاعوا الحفاظ على هذا التّراث الّذي ورثوه من الأجداد".
وبعدما نقل يانوكوفيتش بركة البابا فرنسيس، دعا إلى "الصّلاة من ـجل المؤمنين في العالم أجمع"، مشيرًا إلى "رابط المحبّة بين لبنان والبابويّة، وهو الرّابط الّذي شدّد عليه البابا فرنسيس في آب 2020 بعد الانفجار الّذي حصل في مرفأ بيروت، وعبّر عن تضامنه مع المسيحيّين في الشّرق الأوسط الّذين عانوا كثيرًا في السّنوات الأخيرة"، موضحًا أنّ "هذا يندرج ضمن إطار ما عبّر عنه البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني، الّذي دان "دوّامة العنف والكراهيّة" الّتي يجرّون إليها الشعب اللبناني. وهو ما عبّر عنه أيضا البابا السّابق بنديكتوس السّادس عشر خلال زيارته للبنان".
وتابع: "البابا فرنسيس لم يستطع زيارة لبنان إلى الآن، لكنّ اهتمامه بالحوار المسيحي- الإسلامي يجعل للبنان مقامًا خاصًّا في قلبه. من خلال هذا الكلام للبابوات، أود أن أؤكّد على عمق اهتمام الكرسي الرّسولي بالطائفة المارونية"، مركّزًا على أنّ "هذا الكلام يذكّرنا أيضًا بأهميّة مسؤوليّتنا تجاه الكنيسة والمجتمع المدني في كندا. البشريّة مدعوّة إلى التّجدّد الدّائم في المسيح".