منذ ما قبل عودة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري إلى لبنان، للمشاركة في ذكرى إغتيال والده رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط، طُرحت الكثير من السيناريوهات حول ما إذا كان الرجل ينوي العودة عن قرار تعليق عمله السياسي، الأمر الذي لم يعط جواباً حاسماً حوله في جميع المواقف التي أطلقها، التي تراوحت بين حدّي الرغبة بهذه العودة وإنتظار الوقت المناسب، والذي من المؤكد أنه يرتبط بالظروف، التي يراهن عليها الكثيرون، بالنسبة إلى الصورة التي ستكون عليها المنطقة في المرحلة المقبلة.
من حيث المبدأ، من الواضح أن الحريري ينتظر الفرصة للعودة، من دون أن يشعر بالقلق من أي تداعيات سلبية لغيابه الطويل عن الساحة المحلية، فبالنسبة له، كما هو الحال لدى غالبية القوى السياسية، مكانه محجوز له عندما يقرّر هذه العودة، فهو ركن أساسي من أركان النظام اللبناني الذي يفتقد وجوده اليوم، لكن لا يهدّد موقعه مهما طال الغياب، ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أكد، خلال إستقباله له، أن "السراي بيته وهو من يستقبلنا وليس نحن من يستقبله".
هذه المعادلة، تؤكدها المواقف التي تُطلق من قبل غالبية الأفرقاء السياسيين، سواء كانوا من المعارضين له أو من الحلفاء، فالجميع يتفق على ضرورة عودته، من منطلق أن حضوره إلزامي، وألا يكون هناك مكوناً أساسياً في التركيبة غائب عن المشهد، الأمر الذي لا يمكن أن يصح في ظل التحولات المنتظرة، والتي من المتوقع أن يكون لها تداعياتها على الواقع اللبناني، بالرغم من أن هؤلاء سبق لهم أن وجهوا له الكثير من الإتهامات، سواء كانت مرتبطة بالسياسات الإقتصادية أو بالتنازلات السياسية التي اتهم بتقديمها.
بالنسبة إلى البعض، قد يكون من المستغرب وجود حالة من شبه الإجماع على ضرورة هذه العودة، خصوصاً أن الحريري كان على رأس الحكومة في العام 2019، أي تاريخ إندلاع الإحتجاجات الشعبية التي قادت إلى إسقاط تلك الحكومة، قبل أن تدخل البلاد في دوامة من الإنهيار الإقتصادي والإجتماعي الكبير، إلا أن العودة إلى بعض المواقف، التي أطلقت حينها، تساعد في فهم هذه الحالة، نظراً إلى أنه عندها خرجت بعض الأصوات، من داخل البيئة السنية تحديداً، تعتبر أن سقوطه ممنوع، في حال لم يكن يشمل كل الطبقة الحاكمة.
هنا، قد يكون من المفيد السؤال عما إذا كان رئيس الحكومة السابق قد قام بمراجعة يستطيع أن يقدمها إلى الرأي العام، كي تصبح عودته أكثر من ضرورية، الأمر الذي من المؤكد أنه لم يحصل، لا بل ليس هناك من فريق سياسي لبناني في وارد القيام بذلك، بسبب غياب الحاجة إلى ذلك من الناحية العملية، على إعتبار أن تركيبة النظام تحفظ مواقع الجميع دون إستثناء، بغض النظر عن بعض المناوشات التي تحصل بين الحين والآخر، فالمنافسة، التي تصل في بعض الأحيان إلى حدّ جر البلاد إلى مشارف الإقتتال الداخلي، لا تعني السعي أو حتى التفكير بتهديد أي فريق لموقع الآخر، وهو ما يحصل عادة عندما يحين موعد التسويات.
في السنوات الماضية، كان يتمّ التداول برواية عن حديث دار بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري والرئيس السابق للحزب "التقدمي الإشتراكي" وليد جنبلاط يوماً، سأل فيها الثاني الأول عن سبب إنهماكه في أمور محلّية صغيرة، حيث أجابه بري: "أنت، وأنت فقط، من يقدر أن يغيب مئة عام، وعندما تعود، تجد جماعتك في انتظارك"... بغض النظر عن صحة هذه الراوية أو عدمها، الأكيد هو أن ليس جنبلاط وحده من يستطيع أن يغيب مئة عام، فالنظام يسمح لأي ركن من أركانه بهذه الغيبة، بغض النظر عن الأسباب، وما يحصل مع الحريري اليوم النموذج المثالي لذلك.