زمن التريودي[1] هو رحلة خشوعية مليئة بالصلوات والتوبة والرجوع إلى الذات والله، وهدف كل ذلك أن يصبح الإنسان خليقة جديدة بالمسيح، وهذا تمامًا ما تظهره الأيقونة في وجوه القدّيسين.

قبل البدء بتفاصيل الوجه، لا بد من التذكير أن غياب البسمة عنه يعني أنّه وجه رصين وليس حزين. وصاحبه متألّه وأصبح في اللّاهوى Apatheia. هذا لا يعني إطلاقًا أنه "عديم الحس"، بل يعيش بحسب المشيئة الإلهيّة بتسليم كليّ.

كما نذكّر أن لا وجود لأي ظل في الأيقونة، لأن نور الرب هو المشرق[2]: والوجوه خالية من كل جمال بشري زائل، لأن جمالها آبدي ملكوتي.

نبدأ بالعينين: هما مفتوحتان وواسعتان، ونظرهما موجّهًا إلى وجه الله بشكل ثابت لا يتزعزع: "لَكَ قَالَ قَلْبِي: «قُلْتَ: اطْلُبُوا وَجْهِي». وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ." ( مزمور 8:27).

فالإنسان المصلّي عاشقًا بالرب ويلهج به دائمًا، أينما وجد وفي أي وقت كان. كما نصلّي في القانون الكبير للقـدّيـس أنـدراوس الكريتي: "يا نفسُ! اسهري وأَرضي اللهَ مثلَ العظيمِ في رؤساءِ الاباءِ، لتمتلكي عملاً مع علمٍ وتصيري عقلاً ناظراً الى الله. وتَبلُغي بالثّاوريا[3] الى السّحابةِ الّتى لا يُدْخَلُ إِليها، وتصيري تاجرًا خطيرًا." (الأودية الرابعة).

وطبعًا لا ننسى ما قاله الرب يسوع المسيح في عظة الجبل: "سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا" (متى 22:6-23). "البسيطة" غير معقّدة ومتعرّجة، بمعنى مجرّدة من الأهواء الضارّة، فهي نقيّة وشفّافة.

الحاجبان: ليسا على نفس المستوى، فالحاجب الأيسر أعلى قليلًا من الحاجب الأيمن. الحاجب الأيمن يشير إلى الرحمة، والأيسر إلى العدالة. هناك من يضعهما على نفس الخط الأفقي معتبرًا أن رحمته هي عدالته: "تَفْرَحُ وَتَبْتَهِجُ الأُمَمُ لأَنَّكَ تَدِينُ الشُّعُوبَ بِالاسْتِقَامَةِ، وَأُمَمَ الأَرْضِ تَهْدِيهِمْ." (مزمور 4:67).

الأنف[4]: يكون طويلًا ومستقيمًا لا اعوجاج فيه، وذلك تعبيرًا عن أن خطّه مستقيم لأن طرق الرب مستقيمة. كذلك يكون رفيعًا لأنّ صاحبه لا يشتهي إلّا عبير الملكوت ورائحة البخور والصلوات. والأنف هو جسرٌ بين القسم العلوي من الرأس والقسم السفلي منه، ليقول أن العينين والأنف والفم وحدة متكاملة، وكلّها تشتهي الملكوت السماوي. فكل الوجه متجّه نحو الرب.

كم هو جميل ما قاله أيّوب الصدّيق بالرغم من كل الغم الذي مر به: "حَيٌّ هُوَ اللهُ الَّذِي نَزَعَ حَقِّي، وَالْقَدِيرُ الَّذِي أَمَرَّ نَفْسِي، إِنَّهُ مَا دَامَتْ نَسَمَتِي فِيَّ، وَنَفْخَةُ اللهِ فِي أَنْفِي، لَنْ تَتَكَلَّمَ شَفَتَايَ إِثْمًا، وَلاَ يَلْفِظَ لِسَانِي بِغِشٍّ. إِنَّهُ مَا دَامَتْ نَسَمَتِي فِيَّ، وَنَفْخَةُ اللهِ فِي أَنْفِي" (أيوب 3:27)

إنّه الأنف الروحي الداخلي الذي "يتنسّم رائحة الحياة الأبديّة" (القديس أمبروسيوس)

لقد أدرك القدّيسون تمام الإدراك أن الإنسان دون المسيح هو لا شيء، ولا عظمة له ولا مجد إلّا مجد الرب. هذا تحديدًا ما قاله إشعياء النبيّ: "كُفُّوا عَنِ الإِنْسَانِ الَّذِي فِي أَنْفِهِ نَسَمَةٌ، لأَنَّهُ مَاذَا يُحْسَبُ؟" (إشعيا 22:2). وهذا ما نصلّيه في مزمور الغروب: "تَحْجُبُ وَجْهَكَ فَتَرْتَاعُ. تَنْزِعُ أَرْوَاحَهَا فَتَمُوتُ، وَإِلَى تُرَابِهَا تَعُودُ." (مز 104: 29)، مدركين أن لا نهار جديد لنا إن لم يشرق علينا النور البهي الذي لا يعروه مساء.

الفم: نراه صغيرًا ومطبقًا. المجاهد يدخل في الصمت الإلهيّ الذي هو لغة الدهر الآتي. كذلك هو إنسان صائم ليس فقط عن الطعام الجسدي، بل على كل ما لا يليق بالله. الشفتان ناعمتان خاليتان من كل شهوة ضارة. هذا أيضًا ما ننشده في الغروب: " "اجْعَلْ يَا رَبُّ حَارِسًا لِفَمِي. احْفَظْ بَابَ شَفَتَيَّ." (مز 141: 3).

الأذن: ترسم طويلة - كبيرة - للدلالة على حسن الإصغاء لوصايا الرب .كما قال الرب: «طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ وَيَحْفَظُونَهُ». (لو 11: 28). الإصغاء كان من مزايا والدة الإله، كانت تصغي وتحفظه في قلبها وتعمل به.

نرى في كثير من الأحيان جزءًا صغيرًا ظاهرًا من الأذن، أما الباقي فمغطّى بغطاء الرأس، إشارة إلى الانفصال عن الضجيج الخارجي واكتشاف ملكوت الله في داخلنا.

هذا هو هدف التريودي أن نتنقى ويصبح وجهنا مثل وجه المسيح الذي أصلًا خلقنا عليه، إذ هو الأيقونة الأولى.

فأعطنا يا رب أن نطلبك في كل حين ونكون حقًّا كما قال رسولنا بولس: "لأَنَّنَا رَائِحَةُ الْمَسِيحِ الذَّكِيَّةِ للهِ" (2 كورنثوس 15:2).

إلى الرب نطلب.

[1]. ببدأ الزمن التريودي في الكنيسة الأرثوذكسية مع أحد الفرّيسي والعشار (هذا الأحد) ويمتد إلى سبت النور ، لننتقل بعده إلى زمن جديد وهو الزمن الخمسيني – بندكستاري – بدءًا من أحد الفصح المجيد وصولًا إلى أحد جميع القدّيسين، مرورًا بخميس الصعود وأحد العنصرة.

كلمة تريودي triódion/τριώδιον يونانية وتعني ثلاث أوديات أي قصائد. فكلمة أُوُدية ωδή تشير إلى قصائد من المدح أو التسبيح.

وقد سُمّيَت هذه الفترة "تريودي" لأنّنا نستعيض فيها عن القوانين (التسابيح) التي فيها ٩ أوديات (قصائد) بكتاب التريودي الطقسيّ الذي يقتصر على ٣ أوديات.

[2]. "كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ. (يعقوب 17:1).

[3]. Theoria أي المعاينة الإلهيّة.

[4]. من الناحية التقنيّة، للأنف دورٌ مهمٌّ في عمليّة الدوائر التي يقوم بها كاتب الأيقونة في عملية التصوير في تحديد الوجه الجبهي Frontal مثلًا تشكّل النقطة بين العينين التي ينطلق منها الأنف نزولًا، مركزLe centre الدائرة التي حدودها طول الأنف والعينين Rayon. كذلك تعتبر النقطة مركز تجمّع الحكمة الإلهيّة في الوجه.