في سَرابِ الذين لا ذاكِرَةَ لَهُمُ، زَوالٌ لأيِّ كَينونَةٍ. هُمُ يَهرَعونَ الى نَشوَةٍ مِن ثَلجٍ، تَزيدُ صَقيعَهُمُ فَراغاً. بِها يُزايدونَ، وَحينَ تَضمَحِلُّ لِتُبانَ الأرضُ، يَهرُبونَ مِن عُري لاجُذورِهِمِ الى وَظائِفَ فَراغٍ مِن فَراغٍ... عَلَّها تُكسِبُهُمُ عِصمَةً.
ما كانَ لبنانُ يَوماً تَجَمُّعَ إنطِباعاتٍ وَلا إختِزانَ ذِكرَياتٍ آيلاتٍ الى تَلَفٍ. هو مُذ تَكَوَّنَ كانَ لَهُ إستِحضارُ التَذَكُّرِ قُدرَةً ناقِلَةً مِنَ القُوَّةِ (التَصَوُّرِ-التَهيِئَةِ) الى الفِعلِ (الإقدامِ-البُرهانِ). في المَقاسِ، هَذا لَيسَ بِجَمادٍ، بَل إمتِدادٌ لا حَصرَ لَهُ إذ هو أبَداً مُتَجَدِّدٌ. وَفي التأكيدِ، هَذا ثَباتٌ في فَرادَةٍ لا حَدَّ لَها إذ هي نَقيضُ الإرتِيابِ.
أبِذَلِكَ، لَيسَ لبنانُ نَكِرَةً تَستَجديَ بَعضَ نُعوتٍ؟ هو تَراكُمٌ لا أُفولَ فيهِ، تَدَرُّجُهُ مُنطَلِقٌ مِن تَنَوُّعٍ يَتَّسِعُ في كُلِّ إتِّجاهٍ. وَهو مُضاعَفَةُ حالاتِ الصُعوبَةِ التي يَهوى مَدَّها بِتَجسيدِ ماهِيَّتِهِ.
حتَّى في إيماءَاتِهِ، هو مُستَقيمٌ في كُلِّ ما هو نَقيضُ النَكِرَةِ.
لِنوضِحَ: السَرابُ مُستَنبِطٌ حِيلَةَ الصَحارى، وَيَزيدُها تَعقيداً. لَيسَ في لبنانَ صَحراءٌ. هو نَقيضُها. أفعالُهُ-القُوَّةُ، والقُوَّةُ-أفعالُهُ لَها أسماءُ عَلَمٍ لا غَواميضَ مَكرٍ. لَها جُذورٌ-رُموزٌ يُعَبَّرُ عَنها بِكَلِماتٍ هي مُنطَلَقاتُ تَأثيرٍ، مُقتَطَفُها إيمانِيٌّ، وَمَجراها تَذكيرٌ لا بِما عَبَرَ فإنقَضى وَلا بَما يُشتَهى فَيَسقُطَ، بَل بِما يَطوفُ في الدِقَّةِ، والدِقَّةُ كَفالَةُ الماضِيَ والحَاضِرَ والمُستَقبَلَ...
وإذ الثَلجُ نَقاءٌ، فَثَلجُ لبنانَ، الذي لَيسَ الى ذَوَبانٍ، مَلِكَةَ وَعي الفِعلِ، كَي يَبقى فِعلُ لبنانَ وَعياً.
هَذا ما لا يُدرِكُهُ مُصادِرو ثَلجِ لبنانَ لِغِواياتِ إرباحِهِمِ، كأنَّما مُصادَرَتُهُمِ لِلبنانَ وَبَيعِهِ في أسواقِ نَخاسَةِ الصَحارى ما تَكفيهِمِ. فإن تَحوَّلَ الثَلجُ الُلبنانِيُّ الى سَرابِ صَحارى، في ذَلِكَ لا تَنَكُّرٌ لِلبنانَ-المُعطى بِل لِلمُعطَياتِ-لبنانَ. هَؤلاءِ جُلُّ هَمِّهِمِ تَحويلُ الذاكِرَةِ الى حافِظَةٍ يَسهُلُ إفسادُها بإلغاءِ ما فيها مِن حِرصٍ على دَليلِ الروحِ.
وَما هَذا الدَليلُ؟ هو النِعمَةُ، كُلُّ نِعمَةٍ وَكُلُّ النِعمَةِ. ألبنانُ هَذِهِ النِعمَةُ إيَّاها؟ بَل هيَ صِنوهُ، لِأنَّها قُدرَتُهُ على التَحَكُّمِ في وِحدَةِ التَكوِينِ بَينَ القُوَّةِ وَالأفعالِ. وَهيَ دَليلُهُ على إستِحالَةِ إلغائِهِ، مَهما لِهَثَ حُرَّاسُ الثَلجِ الى حافِظاتِ الصَقيعِ لِلإستِفرادِ بِتَناوبِ المَصائِدَ كَسباً لِوَظيفَةٍ. وَهي تَوازِيُ فَرادَتِهِ في خُصوصِيَّةٍ تَسمو فَوقَ الصَحارى وَإحاطاتِها وَلَواحِقِها... لِتُسقِطَها في قَعرِ مادِيَّاتِها-السَرابِ.
إسهابُ الحَدِّ الفاصِلِ
أفي تِلكَ الجِدَّةِ، لبنانُ-النِعمَةُ قائِمٌ؟ بل هو الرُسوخُ في الإدراكِ الذي لا يَعبُرُ. هو الحَدُّ الفاصِلُ بَينَ الواجِبِ والضَربِ في المُحالِ. بَينَ إستِعذابِ التأثيراتِ وَتَكرارِ اللامِعنى.
إرتِقاؤهُ، مِنَ الخَيالِ الى العَناوينَ البَصَرِيَّةِ، وَمِنها الى سَطوَةٍ لا تَقوى عَلَيها عادَةٌ.
أفي هذا الفاصِلُ-الحَدُّ، مُشابَهَةُ الغَرابَةِ لِلوضوحِ؟ بَل وَثِقَةُ التَوكيدِ على الفَرادَةِ بِوَجهِ العَوائِقَ. إشتِداداً أُفُقِيَّاً على مُستَوىً واحِدٍ، وَعُمُقاُ عامودِيَّاً مِن مُستَوىً الى آخَرِ.
ألَيسَ وَفاءً لِهَذا التَكامُلِ، إنطَلَقَ الُلبنانِيُّونَ مِن مَغارَةِ الإنسانِ الأوَّلِ Homo sapiensفي الشَرقِ، كِسار عَقيلَ، فأسموها أُنطيليوسَ Anthelias وَمِعناها "إزاءَ الشَمسِ" أيِّ الواقِفَةِ مُقابِلَ الشَمسِ عِندَ مَغيبِها، راسِمينَ تِباعاً خَطَّ الحَدِّ الفاصِلِ Cardo maximus وصولاً الى هيليوبوليس "مَدينَةِ الشَمسِ"، وَمُروراً بِـ بارهيليوس، بَرِّ الياسِ، أيّ "شُروقَ الشَمسِ"، وَقَبِّ الياسِ "مَسارَ الشَمسِ بَينَ الشُروقِ والغُروبِ"؟.
لبنانُ-النِعمَةُ، إسهابٌ في هَذا الحَدِّ-الفاصِلِ بَينَ المُبتَدأ وَاللانِهائِيَّاتِ.
هو رِبواتُ الذاكِرَةِ بِوَجهِ مَن يُمسِكَ بالسَرابِ خَواتيمَ تَطوافِ التَشَبُّثِ بالهَوامِشَ.