مع ازدياد التركيز على الاحداث التي تشهدها غزة، احسّ الرئيس الاوكراني فولودومير زيلينسكي بحماوة الحرارة الروسيّة، وبدأت قواته تتراجع شيئاً فشيئاً امام التقدم الروسي على الجبهة، فنقل هذه الحماوة الى القارّة العجوز، ووضعها امام الخيارات المرّة الموجودة، خصوصاً وان الاوروبيين أخلّوا في تعهداتهم ووعودهم باستمرار تدفق السلاح والذخيرة حتى انهم وصلوا الى وعد المليون قذيفة مع حلول شهر آذار المقبل، فكشفهم زيلنسكي مؤكداً انه لم يتلقّ سوى 30 في المئة من هذه الوعود الرنّانة. وكي يحافظوا على ماء الوجه، عمد قادة الدول الاوروبية الى تصعيد وتيرة الكلام، ولوّحوا بامكان ارسال جنود للمشاركة في الحرب ميدانياً، فيما شدّد الرئيس الفرنسي على انه من غير المسموح لروسيا الفوز في هذه الحرب.
نسي الاوروبيون، او تناسوا، ان من يواجهونه هو فلاديمير بوتين، رجل الاستخبارات السابق الذي يتقن فنون لعبة الحرب الباردة والاستخباراتية، ويعلم تماماً كيف تدار الامور وما هي نقاط ضعف خصومه، لذلك يعتبر الرئيس الروسي انه مطمئن الى ما قيل، على الرغم من خطورته وذلك لعدة اسباب اهمها:
1-لا يمكن للاميركيين ولا للغرب النزول الى وحول المشاركة الميدانية في الحرب، فبوتين اختبر ذلك في جورجيا سابقاً، وحتى في اوكرانيا حيث كان الاكتفاء بالتمويل اللوجستي مع بعض "المرتزقة" الذين تحمّسوا لفترة وشاركوا من دون تكليفهم رسمياً من قبل الدول التي ينتمون اليها. ومع اقتراب السنة الثالثة على الحرب بين روسيا واوكرانيا، لم تطأ الارض الاوكرانية رجل جندي رسمي اوروبي او اميركي (ربما بعض التواجد التدريبي والاشرافي)، في حين ان اتفاقيات تعاون دفاعي عدة ابرمت مع دول فاعلة ومنها فرنسا والمانيا على سبيل المثال لا الحصر. وفي حال حصل العكس، فإنّ التوابيت الاولى التي ستصل الى الدول المعنيّة ستعني حكماً سقوط الاحزاب الحاكمة فيها، فالرأي العام لن يتحمّل التضحية بأبنائهم من اجل عيون دولة اخرى. ولا شك ان بوتين تابع باهتمام بالغ، "الاستقتال" الاميركي والضغط على رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو لمنع توسّع الحرب على غزّة، وهو المسار الذي انتهجه الاوروبيون ايضاً، فهل ما يصحّ في غزة لا يصحّ في اوكرانيا؟.
2-لا يخفى على احد مدى الازمة الاقتصادية والمالية التي تعاني منها الولايات المتحدة واوروبا، وهذه بحد ذاتها سبب كاف لعدم التفكير بالمشاركة الميدانية التي تكبّد الدول المعنية مبالغ مالية باهظة جداً، فيما هي عاجزة عن اكمال التزامها بمدّ اوكرانيا بالذخائر والسلاح.
3-ان مجرد تواجد جنود دوليين رسميين في اوكرانيا واستهداف قوات روسيّة، يعني حكماً الدخول في حرب عالميّة ثالثة، وبالتالي، ليس هناك من يضمن الا تنضمّ الصين مثلاً الى الصراع فتصبح كل الاحتمالات واردة، ومنها استعمال الاسلحة النوويّة، فهل من يتحمّل مثل هذا القرار؟.
4-الحرب الداخلية الدائرة في اميركا حول هويّة الرئيس المقبل للجمهورية، يمكن ان تقلب الامور رأساً على عقب، ففي حال فوز الرئيس السابق دونالد ترامب، من المتوقع الا يتردّد في الانسحاب من ايّ اتفاق قد يبرمه الرئيس الحالي جو بايدن مع القارّة العجوز، وهو اثار لغطاً كبيراً خلال حملته الانتخابية الحالية باستهدافه حلف شمال الاطلسي "الناتو" والتقليل من اهميته.
هذه بعض المؤشّرات التي تدلّ على ان قرار المشاركة الميدانيّة بالحرب الاوكرانيّة، هو مجرد تهويل وبمثابة مهدئات تعطى لاوكرانيا لتتخطى النكسة التي اصيبت بها اخيراً بعد ان كانت وجدت نفسها في موقع متقدم على الروس. صحيح ان اوروبا تخاف على نفسها في حال فوز بوتين واخضاعه لاوكرانيا، ولكنها لن تستعمل خرطوشة الحرب العالميّة الاّ اذا كانت الاخيرة، ورأت بالفعل ان بوتين قد تحوّل الى ادولف هتلر جديد وكبُرت طموحاته لتشمل السيطرة على العالم، عندها فقط يصبح لكل حادث حديث.