(مُهداةٌ الى المَسيحِيِّينَ والمُسلِمينَ في تَعانُقِ صِيامِهِمِ)
عَبقَرِيَّةُ لبنانَ واجِبَةُ الوجودِ... والخُلودِ. وجوبها أنَّها مِنَ الإنسانِ وَلِلإنسانِ. وَإلحاحُها يُخَصِّبُ الجَسارَةَ في عُسرِ المَعاضِلَ الوجودِيَّةِ.
هي تِلكَ وَصِيَّةُ الإمامِ المُغَيَّبِ السَيِّدِ موسى الصَدرِ. خَطَّها وَعياً لِأبناءِ وَطَنٍ مِنبَرُهُ دَولَةُ مؤَسَّساتٍ لا أُحدوثَةٌ تَمتَشِقُ خُرافَةً عَلَّها بِها تُصَدِّقُ ذاتَها. وَقَبلَ كَثيرينَ، أدرَكَ أنَّ حُطامَ الغابِرينَ آتٍ عَلَيهِ لبنانَ لِأنَّهُ وَحدَهُ يُجابِهُ بالحَقيقَةِ. تِلكَ جُرأتُهُ، وَسطَ مَكانٍ وَزَمانٍ غارِقَينِ بِتَقليدِ السالِفينَ.
كانَ ذَلِكَ، قَبلَ نِصفِ قَرنٍ. يَوم إعتلى، زَمَنَ الصَومِ المَسيحيِّ، مَذبَحَ كَنيسَةِ القِدِّيسِ لويسِ لِلآباءِ الكَبُّوشِيِّينَ في قَلبِ بَيروتَ، وَألقى عِظَةَ الإنسانِ. قَبلُهُ لا أحَدَ تَجَرَّأ، وَبَعدُهُ لا أحَدَ أقدَمَ.
قالَها: "لبنانُ بَلَدُنا، البَلَدُ الذي يُعتَبَرُ إنسانُهُ رَصيدُهُ الأوَّلُ والأخيرُ، إنسانُهُ الذي كَتَبَ مَجدَ لبنانَ بِجُهدِهِ وَهِجرَتِهِ وَتَفكيرِهِ وَمُبادَرَتِهِ، إنسانُنَا هَذا يَجِبُ أن يُحفَظَ في هَذا البَلَدِ، فَبُعدُ الإنسانِ ثَروَةٌ... المَبدأُ الذي هو اللهُ واحِدٌ، والهَدَفُ الذي هو الإنسانُ واحِدٌ، والمَصيرُ الذي هو إلَهُ الكَونِ واحِدٌ... نَلتَقي لِخِدمَةِ الإنسانِ المُستَضعَفِ المَسحوقِ والمُمَزَّقِ لِكَي نَلتَقِيَ في كُلِّ شَيءٍ، وَلِكي نَلتَقِيَ في اللهِ... ها هو السَيِّدُ عَلَيهِ السَلامُ في مَحَبَّتِهِ الغاضِبَةِ يَصرُخُ: لا.. لا يَجتَمِعُ حُبُّ اللهِ مَعَ كُرهِ إنسانٍ.. فَيُدَوّي صَوتُهُ في الضَمائِرَ وَيَرتَفِعُ صَوتٌ آخَرُ لِنَبيِّ الرَحمَةِ: ما آمَنَ باللهِ واليومِ الآخَرِ مَن باتَ شَبعاناً وَجارُهُ جائِعٌ"...
صَرخَتُهُ أقوى مِن وَرَعِ تَأمُّلٍ. أهيَ دَعوَةٌ لِرِفعَةِ المُجابَهَةِ؟ بَل لِتَوكيدِ الإجابَةِ على هَتفَةِ: مَن نَحنُ؟ أنَحنُ أُمَّةٌ؟ حينَ بَعضٌ إرتَمى أسيرَ جُغرافيا، وأُخَرٌ إستَأثَروا بِثَراءِ بَطشٍ، هو إرتَقى الى الروحِ: لبنانُ الروحُ أُمَّةٌ تُزهِقُ أعاصيرَ الرِمالِ والأجيالِ، وَتَسبُرُ مَجارِيَ الضَميرِ: "يَشهَدُ التاريخُ لِلُبنانَ، بَلَدِ الِلقاءِ، بَلَدِ الإنسانِ، وَطَنِ المُضطَهَدينَ وَمأمَنِ الخائِفينَ، وَفي... هَذا الأُفُقِ الساميَ نَتَمَكَّنُ مِن أن نَستَمِعَ الى النِداءاتِ الأصيلَةِ السَماوِيَّةِ لِأنَّنا إقتَرَبنا مِنَ اليَنابيعَ."
أبِذَلِكَ يُخَلَّدُ لبنانُ في الحَياةِ؟ بَل أكثَرَ: بِذَلِكَ لا تَستَحِثُّهُ فِطرَةُ الغَرائِزَ وَلا سُخطُ التَقَوقُعِ القَومِيِّ في فَيضِ الرُقادِ: "إنَّ غِيابَ الحُرِّيَةِ يَجعَلُ الفَردَ يَخضَعُ لِلحَجمِ الذي يُقَدِّمُهُ الغاصِبُ لِلحُرِّيَةِ، فَيَتَقَزَّمَ الفَردُ، ثُمَّ تَتَقَزَّمُ الجَماعَةُ، وَعِندَما يَرفُضُ الإنسانُ هَذا التَحجيمَ وَيُحاوِلُ (وَنُحاوِلُ مَعَهُ بِمُقتَضى إيمانِنا) الحَدَّ مِن طُغيانِ هَذِهِ القُوَّةِ المُفَرِّقَةِ والساحِقَةِ فإنَّما يُدافِعُ وَنُدافِعُ مَعَهُ عَن طاقاتِ الإنسانِ وَكَرامَتِهِ".
لا! لَيسَ لبنانُ السَيِّدُ موسى ضَلالاً مَبيناً بَينَ الإجحاف والجور، يَستَجديَ عَقائِدَ غَربٍ تَستَعجِلُ بالإستِعلاءِ، وَيستَعطيَ مُداهَناتِ شَرقٍ تُفَتِّتُ بالعَصَبِيَّاتِ. لبنانُ-الإستِبصارُ هَذا إزهاقُ الباطِلَينِ: الغَربِيِّ والشَرقِيّ، وَإِعلاءُ العادِلَ-الأغلَبَ.
المَحَجَّةُ الصائِبَةُ
هوَذا لبنانُ-المَحَجَّةُ، لِهُدى العَقلِ الصُراحِ. أكبَرُ مِن أرضٍ. إنَّهُ روحٌ.
هوَذا لبنانُ-الصائِبُ. لِأَعظَمَ مِن تَغَنٍّ. إنَّهُ إعتِلاءُ مَجارِيَ الروحِ.
مِعيارُهُ إنسانُ-الحَياةِ. غَنيُّ الإشتِقاقاتِ لِأَنَّهُ سَديدُ النَقَراتِ في كُنهِيَّاتِ الإنسانِيَّةِ كَما في بَديهِيَّاتِها: "وَطَنُنا يُحفَظُ لا للهِ وَلا لِإنسانِهِ فَحَسبَ، بَل يَجِبُ حِفظُهُ لِلإنسانِيَّةِ جَمعاءَ وَلِإبرازِ الصورَةِ الحَقَّةِ المُتَحَدِّيَةِ أمامَ الصورَةِ الأُخرى".
مِن كَنيسَةِ بَيروتَ-القَلبِ، كانَ ذاكَ الهَتفُ لِـ"إلَهِ إبراهيمَ وإسماعيلَ، إلَهِ موسى وَعيسى وَمُحَمَّد... قاصِمُ الجَبَّارينَ، مُبيدُ الظالِمينَ، مُدرِكُ الهارِبينَ، نَكَّالُ الطاغينَ، صَريخُ المُستَصرِخينَ". وَضُرِب كُلُّ الُّلبنانَ. وَغُيِّبَ الإمامُ-الصارِخُ. أتَصَدَّعَتِ الإنسانِيَّةُ؟ بَل صُدِّعَ الخَلقُ في صَميمِ الوجودِ وَفي تَصميمِ القُدسِيِّ!.